اتصل بنا
 

رسالة “الطوفان”.. يا “يحيى” خذ الكتاب “بقوة”

كاتب وصحفي اردني

نيسان ـ نشر في 2025-10-09 الساعة 08:02

نيسان ـ توطئة
طريقنا قضية وليست شخصًا، وإنما يأتي النصر من حيث يظن العدو أنه انتصر، وحيث تكون القلة فثَمَّ النصر، ولكنْ لا بد للحق من قوة تَحميه، وتَقْهر أهل الباطل عليه فينقادوا إليه صاغرين، كما أن الحق حين يكون ظاهرًا مُهيمنًا بالقوة الباطشة بطشًا لا يُجَاوز إقامة القسط، ويُخَوِّف أهل الأباطيل من خيانته، فيُخمِدُ بهيبته كل رغبة في النفس في معارضته، والتآمر عليه، والتخلص منه، فإن هذا الحق يكون أَقْبَلَ في النفوس؛ لأن الإنسان بطبيعته يطلب أَمَانه بقوي لا بضعيف.
كما أن هذا الحق القوي هو ذاتُه ضمانة بقائه في الأرض مرجعيةً للناس كافة؛ بما له من أسباب القوة التي تسلب من النفوس كل رغبة في مخالفته، أو الشك في عدالته، وتأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي اتفقت له صحة المعنى دون السند: “إن اللهَ لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن”.
ولقد لفت الإمام القرطبي رحمه الله في كتابه “الإنجاد في أبواب الجهاد” إلى تسخير القوة في سبيل فرض الحق في قوله تعالى: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”.
ومن منطلق ذلك كله، تأبى المقاومة بإصرار شديد الكلام في نزع سلاحها؛ لِعِلمها أن الحق المجرد من كل قوة يصبح حقًّا مجردًا من أسباب البقاء، وليس أدهشَ مثالًا على هذا من تضرع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم بدر: “اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد في الأرض أبدًا”.
ودخل أبو إبراهيم جنتَه وهو مُسْعِدٌ لنفسَه، فلما جاز عتبتها إذ به يتوقف، فتفاجأ لتوقفه الملائكة السائقون؛ فالرجل الذي سَلَخَ عمره كله في السجن والجهاد والرباط والجِراح لأجل هذه اللحظة، وقدم دمه وروحه مَهرًا لها، ها هو ذا يتوقف كأنه يلتمس مكانًا آخر!
فخاطبوه مستعجبين: يا مُفَجِّر “الطوفان” أَهْنَأك اللهُ، هَلَّا كان وقوفك في غير هذا الـمَوضع؛ فوالذي خَلَقَنا منذ ملايين، وصَيَّرنا مذ ذاك على باب جنتك واقفين، ولمجيئك منتظرين، وللحُور المشتاقات مُبَلِّغين، إنا ما رأينا وقوفًا أعجبَ من وقوفك وقد استرحتَ للتو من وُعَثاء السفر، ووالذي سَمَّاك شهيدًا قبل أن نُخلَق إنَّا كنا نُسَمَّع عن فَعْلاتك الفاجئة في قتال يهود، ولكنْ ما نحسب شيئًا أفجأ لنا من وقوفك الآن، وقد أُمِرنا بطاعتك.
فاستضحك عجبُهم أبا إبراهيم، ثم قال بلهجته الغزاوية: تقلقوش، فإنما وقفتُ لأني تذكرت إخواني من شهداء “الطوفان” خاصة، وشهداء فلسطين عامة، وأريد أن أكون أول مَن يُنبئهم بما فعلته كتائب القسام بيهود؛ لأُقِر عيونهم بهم، وأَسُرَّ نفوسهم، وأَسْتبشرهم الخبر، فأنَّى إلى رؤيتهم من سبيل؟
فنظروا إلى بعضهم وقد زال عَجَبُهم كلُّه، وقالوا: لله درك أبا إبراهيم! تَأبى بلوغ منزلتك الشريفة قبل أن تُبلغ إخوانك الذين سبقوك إلى ما صرتَ إليه من كرامة الشهداء بالذي جرى في غزة، طِب نفسًا، فإن سوق الجمعة يوشك على الانعقاد بعد قليل، فانطلق بنا نَأخذْك إليه.
فإذا بالنجائب قد أُحضرت، فأركبوهُهَا ثم انطلقت به بين الجِنَان حتى استوقفتهم ملائكة بَررة، فقالوا لأصحابهم: على رِسْلكم، أَهو هو؟ فقالوا وقد وقع في أنفسهم مراد أصحابهم: إيْ ورَبِّنا، فاستقبلوه بوجوهم قائلين: سلامٌ عليك يا يحيى بما جاهدت في ربك، إنَّا رُسُل كليم الله موسى، وإنه يُقرؤك منه السلام، ويقول لك إنه إنما ضرب البحر بعصاه؛ وُثوق النجاة على وحي من اللهِ إليه، فما كان رجاؤك لَمَّا رميتَ بعصاك الـمُسيرة؟
قال يحيى: وعلى صاحب العصا السلام ورحمة الله وبركاته، لَعَلِّي لم يك معيَ عصا نبي الله موسى، غير أنه كان معي رب موسى يوم ذاك، وأَيمُ الله لو لم يكن بقي لي ساعتئذٍ إلا نَفَس واحد في الحياة لقاتلتهم به بما أَجِد، فإنهم قاتلونا بأسلحة الدنيا كلها، وقد قاتلناهم بأسلحة الإيمان، وسلاح الإيمان أَنْصر على كل أسلحة الأعداء.
قالوا بَاسِمين، ولقوله مُواطئين: لا جَرَم، بهذه الهمة، بهذه الهمة.
فقال له أصحابه: انطلق.
فانطلقوا حتى إذا رأى غُرَف الجنة من فوقه سَبْحَل؛ إذ عاين مِن كَثَب ما لا تُحيط بنُعوت جماله اللغات، فسألَ سُواقه: جنة من هذه؟ قالوا: جنة فلان بن فلان، وهذه؟ فلان بن فلان.
فما إنْ وصل تلك السوق حتى حفَّته زُمَر الشهداء، ولم يكُ يعرف أحدًا منهم حتى تفرس في وجه أحدهم، لعمري إنه عماد عقل، فتقدم إليه فقال: أَأَنت عماد؟
قال: بلى، ولكن مَن أنت؟ فوالله إني لَأَقْدُم هذه السوق لِأَلقى مَن لحقني من إخواني، وأتعرف على مَن جاء بعدي، فأيهم أنت الشهيد؟.
قال: أنا أَسَنُّ منك، ولا أنسى البتة تاريخ استشهادك مغرب يوم 24-11-1993 م.
فأخذت العُجبة عمادًا: “وكيف لم أتعرفك أم لعلك أحد مجاهدي الضفة الغربية أو خارجها؟”.
فقال أبو إبراهيم: ذلك لأني وقت كنتَ مطاردًا تُذِيق الصهاينة برفقه محمد الضيف ويحيى عياش العلقم، حتى صرتَ شهيدًا، كنت أنا في السجن، إني أنا أخوك يحيى السنوار.
فتهللت أسارير عماد، واتسعت عيناه فرحًا، والتزمَه في عناق شديد، فرد عليه أبو إبراهيم بعناق أشد إحكامًا حتى أَرْسلَ كلٌّ منهما صاحبَه، فقال عماد مازحًا: “أيها الستيني القوي، لك كل هذه القوة وأنت في الحادية والستين!”.
فضحك السنوار حتى بَدَت نواجذه، ثم قال: “أما الآن فأنا وأنت في العمر نفسه ابنا 33 سنة، مع أني كنتُ سأكون أقوى منك ولو كنتُ في الحادية والستين.
فرد عماد عليه: لا غَرْوَ في ذلك البتة، فما حدثنا به أبو العبد هنية عن عجائب تصريحاتك، وأصدق جهاداتك، يجعلني أصدق أنك الأقوى قبضةً وإرادةً بيننا ولو كنتَ في الحادية والستين، فلا جَرَمَ إنكم مَعَاشِرَ “مجانين غزة” كنتم الأَشْفَى لصدورنا، حتى هذا التوصيف قد بلغنا عنك أيضًا.
عاود السنوار ضَحِكه ثم سَكَن، فسأله عماد: والآن أخبرني عما جرى بعد استشهاد أبي العبد، فإن عِلْمنا بحالكم قد انتهى إلى حين استشهاده.
فإذا بياض قد أقبل إليهما من بعيد، فإذا هو يحيى عياش مع محي الدين الشريف، ومحمود أبو هنود، وصلاح شحادة، وصالح العاروري، وأحمد الجعبري، ومحمود المبحوح، وعدنان الغول، وإسماعيل أبو شنب، وإبراهيم المقادمة، وجمال سليم، وجمال منصور، ومحمد الزواري، يتقدمهم أو لَكأنهم قَدَّموه دونهم شابٌّ أَبْهَاهم طلعةً، وأوضؤهم وجهًا، عن يمينه عبد العزيز الرنتيسي، وعن يساره أبو العبد.
فلما أبصرهم السنوار طار فرحًا، وسَابَقَهم إليه، فعانقهم واحدًا واحدًا، ثم التفتَ إلى الشاب الذي تقدمهم، وقال: فمَن أنت أيها الوضيء الذي قَدَّمه إخواني حتى لَكأنك رئيسهم، فلكأني أعرفك، ولكني أعرفك؟
فابتسم ذاك الشاب: أَمَا عرفتَ شيخك يا يحيى، أنا أحمد ياسين، أم لعلك ظننتَ أنك ستراني على كرسيَ المتحرك هاهنا، أم لعلك نسيتَ أننا إنما ندخلها أبناء ثلاث وثلاثين.
فأَكَبَّ السنوار على يدي الياسين يُقبلهما، حتى نَزَعَهما الياسين قائلًا: دع عنك هذا يا يحيى، فإنه بلغنا أنك قد لحقت بنا في دار الـمُقَامة، فلم نُطِقْ صبرًا، وقَصَدْنا إلى سوق أهل الجنة؛ بُغية لُقياك، فيا مَرْحبًا ومَرْبحًا بأُنس المَجَالس، وأَنيس المُجَالِس.
ولا يزال الشهداء تترى حتى التحرير…

نيسان ـ نشر في 2025-10-09 الساعة 08:02

الكلمات الأكثر بحثاً