اتصل بنا
 

الفتوحات الإسلامية باعتبارها “احتلالًا” بمقاييس الحاضر.. هل ينبغي لنا الاعتذار عنها؟/ (1)

كاتب وصحفي اردني

نيسان ـ نشر في 2025-11-09 الساعة 10:57

نيسان ـ “.. قُدِّمَ كتاب النكاح على باب السِّيَر والجهاد؛ لأنَّ إيجاد مؤمن أفضل من إعدام ألف كافر”.
هل العقل المسلم أمام مأزق أخلاقي أم تدافعية اجتماعية وأنثروبولوجية؟
توطئة: الغرض من وراء هذا المَبحث
ليسَ شيءٌ أثقلَ على صدر المسلم اليوم من عِبء الرد على أَبَاطيل نَبَّاشي المَقَاذِر، وجامعي القمامات من مزابل الاستشراق، ومَكَبَّاتها المستأجرة. إذ إن ذاك الرد الثقيل على صاحبه يُلْزِم طائره في عنقه أن يُقِيم حُجِّيتَه على نفسه أولًا؛ بجعلها إلى الاطمئنان والاقتناع واليقين أَوْقَرَ منها إلى التردد والتشكك والوساوس القلبية، قبل أن يكون ردًّا مُسْكِتًا على مُسْتَغربة العرب.
ومعلومٌ أنه ليس في طاقة الكل هذه الأيام أن يَسْتظهر للشبهات من نصوص الدِّين ما يُخْمِد اشتعال لَوَاحق سؤالاتها في صدره، إخمادًا يَمنع من صدره تعلق الشُبُهات المَمكورةِ به؛ لأن تَمَكُّنها من القلب، أو من بعضه يُكسِبُ دعوات الاعتذار عن الفتوحات الإسلامية، الصادرة كل حِينٍ عمن يوصفون بـ”مجددي الخطاب الديني” و”محاكمي التراث”، مشروعيةً أخلاقيةً للفحص عنها على مقتضى أعراف العالم الحاضر، ومواثيقه الأممية، ولك أن تتخيل ما يَستتبع هذا العجز الخفي عن إيجاده الحُجَّة على النفس قبل إيجادها على غيرنا من تنازع صاخب داخل النفس، يَهْوي بصاحبها في مكان سحيق!
فإذنْ؛ مَوطن ما يُكابده النشء في التماس اليقين على الشُّبَه ليس آتيًا من طريق كون هذه النفايات المستوردة -التي أُسنِدتْ مَهَامُّ كَبِّها على أسماعنا إلى ناسٍ من مِلِّتنا وجِلْدتنا- يتعذر الإتيان بالمُفنِّد لها، وإنما مَوطن تلك الشُّقَّة المُطَوِّقة عقله أن جيل اليوم منقطع الصلة بقواعد “المنهج العلمي”، وأصول النظر التاريخي الواجبة في أثناء المحاكمات الغيابية للعصور الماضية وأعيانها مِنْ نَحْوِ: الخصوصية الديمغرافية والحضارية والأنثروبولوجية، وإِعْمَالُها على مقتضيات السياق الذي وقعت فيه؛ أيْ ذلك: السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي والديني لصيرورة الأحداث التاريخية مدار الاستشكال والبحث، وأنه لا يصح محاكمة أو إخضاع حوادث تاريخية في الماضي على قوانين وأعراف ومقاييس العالم الحاضر؛ فالماضي وقع في مساحة قوانين خاصة في زمان حدوثه (خصوصية زمانية)، فالعبودية مثلًا كانت عُرفًا عالميًّا جاريًا (تدافعية سيسيولوجية) قبل مجيء الإسلام بمئات آلاف السنين، ولكنها في العصر الحاضر اليوم تسمى اتجارًا بالبشر، ومُجرَّمةٌ عالميًّا.
فكما أنه لا يستقيم عقلًا وعلمًا أن يُدْرس نص شيكسبيري على موازين النقد المُقارِن الحديث؛ لاختلاف إنجليزية شيكسبير عن هذه التي يُتَكلَّم بها اليوم في العالم الحديث، فإنَّ الأصح أن يُستنطق النص على ضوء مِهَاده التاريخي والاجتماعي والثقافي والسيكولوجي الذي تَخلَّق فيه، وليسَ إِلْحَاقَه لَقِيطًا بأرضية غريبة عن روحه.
وللتقريب وتبسيط الأمر: هَبْ أن رجلين قد أُرِيَا الحُلْم نفسه في مَنَامهما، فاشتراكا في الرؤيا عينها بحذافيرها، فهل يَلْزَمُ من هذا الاشتراك بينهما في الرؤيا أن يكون تأويلها واحدًا لكليهما؟! بلا جدال لن يُلْزِم تشابه الرؤيا للأشخاص أن يتفق التأويل ذاتُه لهم جميعًا، وقد سِيقتْ لنا أخبار عمن رأوا الرؤيا ذاتها نيامًا، فعُبِّرتْ لهم على غيرِ تأويل متشابه! وذلك من حِذْقِ المُؤوِّل، وحِدَّة بصيرته التي أَوَّلت رؤيا كل واحد منهم على سياق أحوال الحالم، كُلٌّ منهم على حِدَةٍ، فَحَمْلُ الحُلْم على معنًى يُحدده حال الحالم نفسه، وإنِ اتفقوا أعيانًا في الرؤيا ذاتها.
وعليه؛ لن يُقبَل منك الاحتكام على أحداث الماضي بمعايير ومقاييس وأعراف القرن الواحد والعشرين، وإلا كنتَ كمَنْ يَحْتج لأعمى على طلوع الشمس بِشَاهد البَصَرِ بها رَأْيَ العين! حيث إن هذا المعيار البصري قد يصح الاحتجاج به على سليم البَصَر، لكنك ستغدو أُضحوكة إن احتججتَ بالمُشَاهَد عَيَانًا على أعمى؛ فما هو حُجَّة على المُبْصِرين ليس بحُجة على الأعمى.
فالماضي يُقاس على سياقات وأدوات وخصوصيات عصره ونَاسِه، وليس على أَقْيِسة الحاضر المَعِيش اليوم.
وبغير هذا الضبط المُحْكَم في استقراء حادثات الماضي البعيد يُصْرَفُ الناشئة عن مُدَافَعة الشُّبَهِ عن أوعية قلوبهم، وإلحاح خواطرهم التي يَطلبون اليقينَ عليها فلا يَجِدونه.
ومن أجل ذلك؛ عزمنا أن نطلبَ لك أيها القارئ/القارئة مَظَانَّ اليقين على تلك الشُّبَه المُثارة مما أودعته عقول العلماء مَبثوثًا في شَتَات الكتب والمُطوَّلات؛ تخفيفًا عنك؛ وتسهيلًا عليك، وإماطةً لك عن مَكَاره الطريق، غير ناشدين بكل الذي بين يديك الرَّدَّ على باثِّي تلك الشبهات، بل تَلْقِينك ما يَعْصم من الشكوك صَدْرك.
لأنه مع طول التحاور مع أدعياء الشبهات بالتي هي أحسن لكشف الغشاوة عن أبصارهم تَسْتخلص أن الخلاف الدائر معهم ليس في فهم التشريع، أو طريقة تطبيقه، أو الاجتهاد في تَنزِيله على: مفهوم دولة المُوَاطَنة، والهُوية الإسلامية الجامعة، ومؤسسة العَدْلية والعقوبات الجزائية حَدًّا وتعزيرًا وقِصَاصًا، والنظام السياسي والاقتصادي، والسياسة الشرعية في إدارة العلاقات الخارجية، وإنما بِذرة الخلاف المُسْتتر أنهم يَنْقِمُون منا إلا أنْ ارتضينا التشريعَ ذاته! و الإسلامَ ذاته، وإلا أنَّ كَونَك مسلمًا على دستور الله لا الدساتير الوضعية، فإذن مشكلتهم مع النص الشرعي نفسه، وليس مع آلية تطبيقه أو طريقة فهمه.
وحَسْبُنا من واقعية الإسلام ومَقَاصديته ما أورده الملا علي القاري في “مرقاة المفاتيح” بقوله: “.. قُدِّمَ كتاب النكاح على باب السِّيَر والجهاد؛ لأنَّ إيجاد مؤمن أفضل من إعدام ألف كافر”.
وللحديث بقية وتَتِمَّة نَسُوقه لك تِبَاعًا في مقالات مُرَقَّمةٍ متلاحقة بعضُها في إِثْرِ بعض؛ لئلا تَرْغبَ عن قراءتها بسبب طولها، وأنت في هذا مُحِق كُلَّ الحقِّ؛ فالتطويلات مُؤذِنةٌ بإملال النفس في زمن تكنولوجيا المعرفة السريعة هذا! لكنَّ الإيجاز -أيضًا- قد يُخِلُّ بما نُدِير عليه الكلام، وليس الكل قادرًا على أنْ يُوفِيَ على غايته بأقصر العبارات، وأقل الكلام كما هو حالنا، فاحْتَلنا للتوسط بين هذين الصعبين (التطويل والتقصير) بتقسيم المادة على أجزاء؛ تهوينًا عليك لوَعَثَاء هذه السياحة الشاقة بِصُحبتنا.

نيسان ـ نشر في 2025-11-09 الساعة 10:57


رأي: عبد الرحمن نجم كاتب وصحفي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً