ازدواجية المنهج العلمي.. “تاريخ العدالة” أنموذجًا
عبد الرحمن نجم
كاتب وصحفي اردني
نيسان ـ نشر في 2025-11-19 الساعة 11:49
نيسان ـ تَسْلُك البحوث كافة على تنوع عُنْوَاناتها طَرَائق قِدَدًا من النظر، تواضعوا على تَسْميتها “المناهج العلمية”. والمنهج أسلوب يُتَوسَّل به إلى معالجة الغاية التي قَصَد إليها الباحث من بحثه لبلوغ نتيجة نسبية.
على أنَّ هذه النتيجة النسبية التي أَدَّى إليها المَنْهج المُتخذ ليس يَتَهَيأ لها صَواب مُطلق؛ لأن لا معرفة تامة، وهذا التسليم المعرفي يَضْطَرُّنا إلى شَفْع أي نتيجة مَبْلُوغة بـ”نسبية”؛ دلالةً على حتمية نقص معرفة البشر، وعجزها عن رُتبة الكمال، وهذا الإقرار على ما فيه من اعتراف بالتقاصر دون التمام لَهُو ذُروة الوعي المعرفي الذي يُتَوصَّلُ به إلى أنَّا ما أُوتينا إلا قليلًا من العلم، وليس بعد هذا علمٌ أَجَلُّ من أنْ يُؤثَر دونه علم.
والباحثون على ما بينهم من اختلاف المنهج يَشْتركون في بعض أدوات التطبيق، أيًا كان ذلك المنهج الذي ضَرَبَه صاحبه على بحثه، ذلك أنَّ أيَّ منهج يقتضيه أمران لا يَسَعُ باحثًا تركهما ما عُزِمَ له الطلب؛ الأول: معالجة قَبْلية من نحو “جَمْع المادة من مَظَانِّها” ثم استظهار نُصوصها دَرْكًا وربطًا والمقابلة بينها، والثاني: معالجة بَعْدية تتعلق بالأسلوب المُختار (وصفي، تحليلي، استدلالي، استقرائي ..إلخ).
وبَعْدُ، فإنَّ هذا التَّصْدير أَلْجَأتنا إليه الحاجة إلى التنبيه على أن أي شيء يسمى بحثًا ولم يَسْتوف لوازم المنهج، ولا سيما ما يكتبه المستشرقون في ما يتصل إلى الإسلام وأهله بِسَبب، لا يُحْمَل على الخطأ، بل على الخطيئة، أعني تَعَمُّد النية؛ لأنَّ التَّطَاوُع على بعض أدوات المنهج معلوم بالضرورة، ولا اختلاف فيه، لأنها تَوْقيفية بينهم، وليست تَوْفيقية يَسْتَكِدُّ التوصل إليها البَاحثَ، على حين أن الاختلاف بينهم يَتَوجه إلى الفهم والأسلوب.
ولعل من الشواهد المَضْروبة لهذا الرذيلة العلمية كتاب “مختصر تاريخ العدالة” -الصادر منذ سنتين عن شهرية عالم المعرفة- لديفيد جونستون، وهو بروفيسور العلوم السياسية في جامعة كولومبيا؛ إذ أتى فيه على العدالة كفلسفة سياسية، وتعقب ظهورها لدى البابليين والعبريين واليونانيين والرومان، وصولًا إلى المفكرين المعاصرين، ما خلا المسلمين!! فكيف سَقَطَ على بَحَّاثَة كصاحبنا هذا أنْ يُلْمِحَ عن العدالة في الإسلام إلْمَاحَه عنها في مذاهب وأحقاب إنسانية شتى.
أما الاعتذار عن ذلك بأن الكتاب وجيز المادة على وقوعه في 311 صفحة فمَرْدود مَرْذول؛ لأن صاحب الكتاب استطرد فيه استطرادَ مَنْ لم يُعْرِض عن ذكر الأولين والآخِرِين كأفلاطون وأرسطو ومفكري مذهب المنفعة، فضلًا عن آدم سميث وجون ستيوارت وإيمانويل كانت وغيرهم من أضرابهم ومَنْ في طَبَقَتهم.
فلئن قَطَعنا بصدق حجة الإيجاز، أفلا كان الإيجاز من حظ غير الفلسفة الإسلامية للعدالة؛ لظُهُور أمرها، واتساع أثرها، وتوفر مصادرها؟!
والذي يَحْمل النفس حَمْلًا على العَجَب هو اعتذار مترجم الكتاب مصطفى ناصر عن صاحبه اعتذارًا في غير موضعه؛ بإنابة نفسه عنه بالاعتذار، ثم بقوله على استحياء مُتكلِّفًا له العذر في نهاية تقديمه للكتاب، بعد طويل امتداح له، وثناء على مؤلفه: “.. مع ملاحظتنا عليه في أنه قد أهمل الفكر الإسلامي الذي لم يكن قاصرًا في هذا الشأن، وخاصة ما كتبه الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة وغير ذلك، وما يزخر به تاريخنا في عصر فجر الإسلام من نماذج راقية، تحققت فيها العدالة بأسمى صورها، ولكن هذا هو شأن الكتاب الغربيين دائمًا”.
ولَعَمْري فهذه الشَّفَاعة أَجْلَب للعَجَب من خطيئة المُعتَذَر عنه؛ لأنه بقوله عن صاحبه: “أهمل الفكر الإسلامي..” بَرَّأه من قَصْدية الإرادة على عُهْدَة “أهمل”؛ يُريد أنه تَقَاصر دون الهام اجتهادًا منه!
ثم بقوله: “ولكن هذا هو شأن الكتاب الغربيين دائمًا” جَمَعَ على نفسه تَخْليطًا علميًا وعقليًا. أما علميًا فلأنه إنْ كان إنما قَصَد إلى أن يَجْعلهم في جملة المجانبين للأمانة العلمية، فإنه عَنَى الطَّعْنَ عليهم برمتهم، وهذا افتراء عظيم، فلقد اتفقت لغربيين -وبعضهم يهودي- من الأمانة العلمية والنزاهة الموضوعية ما لم يتفق لغيرهم من المسلمين في حق دينهم، أمثال: غوستاف لوبون، وغوته، وبرنارد شو، ونيتشه، وليو تولستوي، ولين بول، وتوماس كارليل، ولامارتين، وجان جاك روسو، وجونس أوركس، وجوستاف جرونيباوم.
ولا يَسُوغ عقلًا التعميم بأنْ تُجْرِيَ على البعض حُكْم الكل أو العكس، والمنهج القرآني يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلا يدخل كاتب عَدْلٌ في حكم آخر جائر، فكل كاتب مُلْزم طائره في عنقه، فلئن حَاف غربيون على الإسلام فلقد أنصف آخرون.
كما لا يَقْبل عقل سليم لصاحبه أن ينوب عن غيره في الاعتذار، وإنْ كان فداخلٌ في المجاملة اللاعلمية التي تحيد عن الموضوعية البحثية، ولا يَصِح أن تكون في بحث مسطور.
وعلى الجملة، فالعدالة البشرية قاصرة قصورًا بائنًا؛ لأن واضعها بشرٌ في حق بشر، والبشر للبشر أَظْلم، وعلى الهوى أَطْبَع، وكان أقصى ما اصْطَنَعَته أنْ سَوَّت بين الرجل والمرأة والحيوان مُساواةَ اعتباط بروح مَوَات لمجتمع المادة الذي يَشْبع فيه العامل، ويَجُوع فيه العاطل!
فللكلب أن يَرِث صاحبه كما يَرِث الناسُ الناسَ! وللرجل أنْ يَنْكح الرجلَ ويَسْتولده بَنينَ وبنات! كما أن للمرأة مع المرأة مِثْلَ ذلك، وحَسْبُك عَاهةً بقولهم: “القانون لا يحمي المغفلين”! ومَعْناه أن القانون سُنَّ لغير المغفلين، أي لفئة دون فئة! فبئست العدالة هذه.
أما قانون العدالة في الإسلام المُستَمِد تشريعه من خالق الناس للناس، والصانعُ أَعرف بصَنْعته، فأقام ميزان العدل بين الأنام على أساس التوازن المَصْلحي والنفع الجماعي لكل نوع، كُلٌّ حَسْبَ جنسه وطبيعته ودوره المُيَسَّر له، وليس على أساس التسوية الكاملة بينهم، مُفصِّلًا كل ما قد يكون تفصيلًا.
فلئن حاسب قانون البشر الناسَ على ظاهر الفِعْل، فلقد حاكم المنهج الإسلامي ظاهر الأفعال بعد نَفْي الشُّبُهات عنها، ولا أَقْرَبَ إلى هذا مَثَلًا من قَولهم إن الفاروق في صَدْر خلافته “أوقف” حد السرقة في عام الرمادة، والحق أنه لم يوقف حَدًا، وإنما أَجْرَى في الحادث المرفوع إليه قاعدة نبوية: “ادرؤوا الحدود بالشبهات”، فكان أنْ دَفَع حد القَطْع بشبهة الجوع.
على أن فيكتور هوجو حَدَّثنا في “بؤسائه” المنشورة في عام 1862 (القرن التاسع عشر) عن جان فالجان الذي لَبِث في السجن 19 عامًا؛ لسرقته رغيف خبز بعد أن أخذه الجوع! والرواية تنقل صورة من الظلم الاجتماعي المتفشي في فرنسا آنذاك، فأين هذه المَدَنِيَّة البَشِعة من عدالة الإسلام الاجتماعية!
على أنَّ هذه النتيجة النسبية التي أَدَّى إليها المَنْهج المُتخذ ليس يَتَهَيأ لها صَواب مُطلق؛ لأن لا معرفة تامة، وهذا التسليم المعرفي يَضْطَرُّنا إلى شَفْع أي نتيجة مَبْلُوغة بـ”نسبية”؛ دلالةً على حتمية نقص معرفة البشر، وعجزها عن رُتبة الكمال، وهذا الإقرار على ما فيه من اعتراف بالتقاصر دون التمام لَهُو ذُروة الوعي المعرفي الذي يُتَوصَّلُ به إلى أنَّا ما أُوتينا إلا قليلًا من العلم، وليس بعد هذا علمٌ أَجَلُّ من أنْ يُؤثَر دونه علم.
والباحثون على ما بينهم من اختلاف المنهج يَشْتركون في بعض أدوات التطبيق، أيًا كان ذلك المنهج الذي ضَرَبَه صاحبه على بحثه، ذلك أنَّ أيَّ منهج يقتضيه أمران لا يَسَعُ باحثًا تركهما ما عُزِمَ له الطلب؛ الأول: معالجة قَبْلية من نحو “جَمْع المادة من مَظَانِّها” ثم استظهار نُصوصها دَرْكًا وربطًا والمقابلة بينها، والثاني: معالجة بَعْدية تتعلق بالأسلوب المُختار (وصفي، تحليلي، استدلالي، استقرائي ..إلخ).
وبَعْدُ، فإنَّ هذا التَّصْدير أَلْجَأتنا إليه الحاجة إلى التنبيه على أن أي شيء يسمى بحثًا ولم يَسْتوف لوازم المنهج، ولا سيما ما يكتبه المستشرقون في ما يتصل إلى الإسلام وأهله بِسَبب، لا يُحْمَل على الخطأ، بل على الخطيئة، أعني تَعَمُّد النية؛ لأنَّ التَّطَاوُع على بعض أدوات المنهج معلوم بالضرورة، ولا اختلاف فيه، لأنها تَوْقيفية بينهم، وليست تَوْفيقية يَسْتَكِدُّ التوصل إليها البَاحثَ، على حين أن الاختلاف بينهم يَتَوجه إلى الفهم والأسلوب.
ولعل من الشواهد المَضْروبة لهذا الرذيلة العلمية كتاب “مختصر تاريخ العدالة” -الصادر منذ سنتين عن شهرية عالم المعرفة- لديفيد جونستون، وهو بروفيسور العلوم السياسية في جامعة كولومبيا؛ إذ أتى فيه على العدالة كفلسفة سياسية، وتعقب ظهورها لدى البابليين والعبريين واليونانيين والرومان، وصولًا إلى المفكرين المعاصرين، ما خلا المسلمين!! فكيف سَقَطَ على بَحَّاثَة كصاحبنا هذا أنْ يُلْمِحَ عن العدالة في الإسلام إلْمَاحَه عنها في مذاهب وأحقاب إنسانية شتى.
أما الاعتذار عن ذلك بأن الكتاب وجيز المادة على وقوعه في 311 صفحة فمَرْدود مَرْذول؛ لأن صاحب الكتاب استطرد فيه استطرادَ مَنْ لم يُعْرِض عن ذكر الأولين والآخِرِين كأفلاطون وأرسطو ومفكري مذهب المنفعة، فضلًا عن آدم سميث وجون ستيوارت وإيمانويل كانت وغيرهم من أضرابهم ومَنْ في طَبَقَتهم.
فلئن قَطَعنا بصدق حجة الإيجاز، أفلا كان الإيجاز من حظ غير الفلسفة الإسلامية للعدالة؛ لظُهُور أمرها، واتساع أثرها، وتوفر مصادرها؟!
والذي يَحْمل النفس حَمْلًا على العَجَب هو اعتذار مترجم الكتاب مصطفى ناصر عن صاحبه اعتذارًا في غير موضعه؛ بإنابة نفسه عنه بالاعتذار، ثم بقوله على استحياء مُتكلِّفًا له العذر في نهاية تقديمه للكتاب، بعد طويل امتداح له، وثناء على مؤلفه: “.. مع ملاحظتنا عليه في أنه قد أهمل الفكر الإسلامي الذي لم يكن قاصرًا في هذا الشأن، وخاصة ما كتبه الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة وغير ذلك، وما يزخر به تاريخنا في عصر فجر الإسلام من نماذج راقية، تحققت فيها العدالة بأسمى صورها، ولكن هذا هو شأن الكتاب الغربيين دائمًا”.
ولَعَمْري فهذه الشَّفَاعة أَجْلَب للعَجَب من خطيئة المُعتَذَر عنه؛ لأنه بقوله عن صاحبه: “أهمل الفكر الإسلامي..” بَرَّأه من قَصْدية الإرادة على عُهْدَة “أهمل”؛ يُريد أنه تَقَاصر دون الهام اجتهادًا منه!
ثم بقوله: “ولكن هذا هو شأن الكتاب الغربيين دائمًا” جَمَعَ على نفسه تَخْليطًا علميًا وعقليًا. أما علميًا فلأنه إنْ كان إنما قَصَد إلى أن يَجْعلهم في جملة المجانبين للأمانة العلمية، فإنه عَنَى الطَّعْنَ عليهم برمتهم، وهذا افتراء عظيم، فلقد اتفقت لغربيين -وبعضهم يهودي- من الأمانة العلمية والنزاهة الموضوعية ما لم يتفق لغيرهم من المسلمين في حق دينهم، أمثال: غوستاف لوبون، وغوته، وبرنارد شو، ونيتشه، وليو تولستوي، ولين بول، وتوماس كارليل، ولامارتين، وجان جاك روسو، وجونس أوركس، وجوستاف جرونيباوم.
ولا يَسُوغ عقلًا التعميم بأنْ تُجْرِيَ على البعض حُكْم الكل أو العكس، والمنهج القرآني يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلا يدخل كاتب عَدْلٌ في حكم آخر جائر، فكل كاتب مُلْزم طائره في عنقه، فلئن حَاف غربيون على الإسلام فلقد أنصف آخرون.
كما لا يَقْبل عقل سليم لصاحبه أن ينوب عن غيره في الاعتذار، وإنْ كان فداخلٌ في المجاملة اللاعلمية التي تحيد عن الموضوعية البحثية، ولا يَصِح أن تكون في بحث مسطور.
وعلى الجملة، فالعدالة البشرية قاصرة قصورًا بائنًا؛ لأن واضعها بشرٌ في حق بشر، والبشر للبشر أَظْلم، وعلى الهوى أَطْبَع، وكان أقصى ما اصْطَنَعَته أنْ سَوَّت بين الرجل والمرأة والحيوان مُساواةَ اعتباط بروح مَوَات لمجتمع المادة الذي يَشْبع فيه العامل، ويَجُوع فيه العاطل!
فللكلب أن يَرِث صاحبه كما يَرِث الناسُ الناسَ! وللرجل أنْ يَنْكح الرجلَ ويَسْتولده بَنينَ وبنات! كما أن للمرأة مع المرأة مِثْلَ ذلك، وحَسْبُك عَاهةً بقولهم: “القانون لا يحمي المغفلين”! ومَعْناه أن القانون سُنَّ لغير المغفلين، أي لفئة دون فئة! فبئست العدالة هذه.
أما قانون العدالة في الإسلام المُستَمِد تشريعه من خالق الناس للناس، والصانعُ أَعرف بصَنْعته، فأقام ميزان العدل بين الأنام على أساس التوازن المَصْلحي والنفع الجماعي لكل نوع، كُلٌّ حَسْبَ جنسه وطبيعته ودوره المُيَسَّر له، وليس على أساس التسوية الكاملة بينهم، مُفصِّلًا كل ما قد يكون تفصيلًا.
فلئن حاسب قانون البشر الناسَ على ظاهر الفِعْل، فلقد حاكم المنهج الإسلامي ظاهر الأفعال بعد نَفْي الشُّبُهات عنها، ولا أَقْرَبَ إلى هذا مَثَلًا من قَولهم إن الفاروق في صَدْر خلافته “أوقف” حد السرقة في عام الرمادة، والحق أنه لم يوقف حَدًا، وإنما أَجْرَى في الحادث المرفوع إليه قاعدة نبوية: “ادرؤوا الحدود بالشبهات”، فكان أنْ دَفَع حد القَطْع بشبهة الجوع.
على أن فيكتور هوجو حَدَّثنا في “بؤسائه” المنشورة في عام 1862 (القرن التاسع عشر) عن جان فالجان الذي لَبِث في السجن 19 عامًا؛ لسرقته رغيف خبز بعد أن أخذه الجوع! والرواية تنقل صورة من الظلم الاجتماعي المتفشي في فرنسا آنذاك، فأين هذه المَدَنِيَّة البَشِعة من عدالة الإسلام الاجتماعية!
نيسان ـ نشر في 2025-11-19 الساعة 11:49
رأي: عبد الرحمن نجم كاتب وصحفي اردني


