اتصل بنا
 

القارة العجوز ترفع الراية البيضاء: أوروبا تتحول من قائد إلى تابع

نيسان ـ نشر في 2025-11-19

القارة العجوز ترفع الراية البيضاء: أوروبا
نيسان ـ لقرون، نجحت أوروبا في فرض إرادتها على العالم. أما الآن، فقد بدأ العالم يفرض إرادته على أوروبا. ولعل صورة التقطت في ملعب تيرنبيري للجولف في اسكتلندا في نهاية يوليو تلخص الموقف بوضوح.
فقد تم تصوير رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وهي تبتسم ابتسامة باهتة، رافعة إبهامها إلى الأعلى، فيما كانت إلى جوار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كانت تعلو محياه ابتسامة عريضة.
كان الاتحاد الأوروبي قد وافق للتو، باستسلام، على قبول تعريفة جمركية أساسية بنسبة 15% تفرض على صادرات الاتحاد الأوروبي إلى أمريكا دون أي رد.
وكان على فون دير لاين وفريقها أن يبتسموا ويتحملوا مرارة الأمر. كانت اللحظة شديدة الإيلام، إذ كان ينظر إلى التجارة بصفتها المجال الوحيد الذي يمكن للاتحاد الأوروبي أن ينافس فيه القوى العظمى العالمية.
حيث يضاهي حجم السوق الأوروبية الموحدة اقتصادي الصين أو الولايات المتحدة. كما اعتاد الاتحاد الأوروبي العمل وحدة واحدة في قضايا التجارة.
وخلال الأشهر التي سبقت حادثة تيرنبيري، كان هناك الكثير من الحديث في بروكسل عن رد أوروبي ضروري على تعريفات ترامب.
لكن في نهاية المطاف، انهار الاتحاد الأوروبي - ويعود ذلك إلى حد كبير إلى الرعب الذي يعتري الأوروبيين من أن إدارة ترامب سترد بخفض التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا إذا تجرأت أوروبا وفرضت رسوماً جمركية مضادة على الولايات المتحدة.
وفي ظل اشتعال الحرب في أوكرانيا وتزايد المخاوف من تهديد روسي أوسع لأوروبا، كانت هذه مخاطرة لم يكن الأوروبيون مستعدين بالمرة لتحملها.
وهكذا، فقد أدى ضعف أوروبا الأمني إلى إبطال قوتها في مجال التجارة. وقاد أحد أشكال الضعف إلى آخر. ولو كان هذا حادثاً معزولاً، لكان من الممكن اعتبار أن مزيجاً مؤسفاً من الظروف أفضى إليه. لكن في الواقع، تتراكم أمثلة الضعف الأوروبي.
وفي بداية ولايتها رئيسة للمفوضية، شددت فون دير لاين على طموحها لقيادة «مفوضية جيوسياسية»، لكن الاتحاد الأوروبي بات مهمشاً دبلوماسياً - حتى في ظل الحروب الدائرة على حدود أوروبا والتي تؤثر بشكل مباشر على مصالح القارة.
ورغم أن الدول الأوروبية هي الآن أكبر من يقدم المساعدات العسكرية والمالية لأوكرانيا، إلا أنه عندما حاول ترامب إنهاء الحرب في وقت سابق من هذا العام، اختار التفاوض مباشرة مع فلاديمير بوتين، فيما لم يكن بمقدور الأوروبيين سوى التواصل اليائس بالبيت الأبيض قبل القمة وبعدها.
وتكرر الأمر نفسه مع غزة، رغم أنه صراع محتدم على حافة البحر الأبيض المتوسط. وقد تركزت الدبلوماسية الحاسمة لتأمين وقف إطلاق النار فقط حول الولايات المتحدة وقطر ومصر وإسرائيل. ومرة أخرى، لم يكن بمقدور أوروبا سوى التدخل من على خط التماس.
وبينما يمكن أن تؤدي الحرب الوحشية المستعرة في السودان إلى تدفقات جديدة من اللاجئين نحو أوروبا. لكن اللاعبين الخارجيين الرئيسيين، ليس من بينهم أوروبا للأسف الشديد. كذلك يشهد النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا تراجعاً حاداً. وفي مالي، يبدو أن روسيا أولاً، والآن القوى المتطرفة، هي التي تملأ الفراغ.
السؤال الآن هو ببساطة: لماذا تبدو أوروبا عاجزة إلى هذا الحد؟ إن العجز الذي يشار إليه غالباً هو عجز عسكري ومالي. لكن هذه ليست القضايا الأكثر خطورة.
فهناك صناعة دفاع أوروبية ضخمة، وأوروبا لا تزال قارة غنية، وإن كانت مثقلة بالديون. فعلياً، المشكلات الأكبر هيكلية وسياسية، بل وحتى نفسية، فبروكسل ليست سوى بيروقراطية.
إنها بارعة في الإجراءات القانونية لكنها تبقى عاجزة عن التصرف بسرعة وحزم كالقوى العظمى الأوروبية في الماضي، أو كالولايات المتحدة والصين اليوم.
وغالباً ما لا تلقى المناشدات الأوروبية للأخلاق والقانون الدولي في قضايا مثل أوكرانيا آذاناً صاغية بالمرة في أفريقيا وآسيا - فقد تأثر تاريخ البلدان في هاتين القارتين بقرون من الإمبريالية الأوروبية القاسية. وفي ذروة العصر الإمبراطوري الأوروبي، شاركت القوى العظمى آنذاك - بريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى بلجيكا - في «الصراع على أفريقيا».
والآن، مع تراجع القوة الأوروبية، فإننا نشهد بداية ما يسميه الباحث في جامعة أكسفورد، ديميتار بيتشيف، «الصراع على أوروبا»، حيث بدأت القوى الخارجية تفرض نفوذها على جميع أنحاء القارة الأوروبية.
وعلى سبيل المثال، ففي غرب البلقان، التي تسير دولها نظرياً على طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يتزايد نفوذ روسيا وتركيا والصين. وقد وثقت ورقة بحثية حديثة صادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية النفوذ الذي تمارسه بكين من خلال مشاريع البنية التحتية والقروض.
ويهدد الصراع على أوروبا الوحدة الداخلية للاتحاد الأوروبي، حيث تمارس القوى الخارجية سياسة «فرق تسد». وقد كان أحد أسباب عجز أوروبا عن الرد على رسوم ترامب الجمركية هو اختلاف مصالح دول وصناعات الاتحاد الأوروبي المختلفة، وهو ما تقوم الولايات المتحدة باستغلاله جيداً.
لذلك، من المرجح أن يكون رد الاتحاد الأوروبي على «الصدمة الصينية الثانية» المتمثلة في صادرات الصناعات التحويلية التي تهدد القاعدة الصناعية لأوروبا مشوشاً بالمثل، حيث تعطل إغراءات بكين الجهود المبذولة لتشكيل استجابة أوروبية جماعية.
وحتى الوحدة الأوروبية بشأن أوكرانيا - التي قد تبدو للبعض مفاجئة حتى الآن - قد تبدأ بالانهيار مع فوز أحزاب أكثر تعاطفاً مع موسكو في الانتخابات في دول الاتحاد الأوروبي مثل سلوفاكيا وجمهورية التشيك.
إن الأوروبيين يستمدون أحياناً العزاء من حقيقة أن القارة، رغم افتقارها للقوة الصلبة، لا تزال تتمتع بوفرة من القوة الناعمة. إنها جذابة للغاية لأغنى وأفقر سكان العالم على حد سواء. وإذا كنت ترغب في الوجبات الفاخرة أو الرواتب العالية، فإن القارة العجوز هي وجهتك.
لكنّ الثروة والأمن اللذين يدعمان هذه العلامات المميزة للمجتمع المتحضر قد يتعرضان في النهاية للتهديد، إذا لم تتمكن أوروبا من إيجاد طريقة فعالة لممارسة القوة الصلبة.

نيسان ـ نشر في 2025-11-19

الكلمات الأكثر بحثاً