لماذا تنتقل بعض النسويات من الدفاع عن المرأة إلى الدفاع عن الرجل
فراس عوض
كاتب
نحو نموذج ثالث اكثر انصاف ورحمة
نيسان ـ نشر في 2025-11-25 الساعة 09:19
نيسان ـ في وعي الإنسان لحظة حاسمة، لا تُشبه أي لحظة أخرى؛ لحظة تتصدّع فيها الإيديولوجيا تحت ثقل الواقع، ويصبح ما نراه بأعيننا أقوى من كل ما قيل لنا، وما لمسناه بأصابع التجربة أصدق من كل ما حفظناه من الشعارات. وفي هذه اللحظة بالذات، تبدأ رحلة التحوّل… ليس من معسكر إلى آخر، بل من ضفة إلى أخرى داخل القلب نفسه. وهذا تمامًا ما حدث مع كثير من النسويات في الغرب، وما حدث معي أنا أيضًا، حين تحركت من الدفاع عن المرأة إلى الدفاع عن الرجل، دون أن أفقد حبي للمرأة أو إيماني العميق بأن الإنسان هو مركز العدالة ومحورها.
في الغرب، اكتشفت نسويات كثيرات، صدمن بالواقع، منهم، كارن ستروان و هيلين سميث الصورة التي رُسمت للرجل - بصفته جانيًا، متغولًا، مستفيدًا، ممتلكًا لكل الامتيازات - ليست الحقيقة الكاملة، بل نصف الحقيقة، والنصف الآخر تم إخفاؤه عمدًا داخل الخطاب الذي أراد للمرأة أن تكون ملاكًا دائمًا، والرجل شيطانًا دائمًا. لكن الزمن لا يحمي الأساطير والمبالغات، وحين ظهرت المآسي في قلب المجتمعات الغربية نفسها- ملايين الأمهات الوحيدات، أطفال بلا آباء، شباب بلا سند، مؤسسات زواج منهارة، انفلات جنسي بلا معنى، ومجتمعات تذوب فيها الروابط - بدأت النسويات يشعرن بأن الإيديولوجيا التي تبنّينها أخفت جزءًا من الحقيقة… وأن الرجل أيضًا كان ضحية في سياقات كثيرة، لكن لم يكن مسموحًا الاعتراف بذلك.
تجاربهن الذاتية قادتهن إلى هذا التحوّل.. وجوه الرجال المنهارين في جلسات العلاج، اعترافات الشباب الذين خسروا أبناءهم، الرجال الذين تم اتهامهم ظلمًا، من خسروا عملهم أو حياتهم أو صحتهم النفسية أمام قوانين لا تراهم إلا من زاوية واحدة… كل ذلك خلق صدمة داخلية في وعي كثير من النساء اللواتي كنّ جزءًا من الحركة النسوية نفسها. اكتشفن أنهن شاركن - بغير قصد - في إنتاج سردية غير عادلة، وأن الاعتراف بآلام الرجال ليس خيانة للنساء، بل خطوة لإعادة الإنسان إلى مركز النقاش، بدل السجال العقيم بين “الذكور” و“الإناث”.
وهذا ما حدث معي تمامًا. كنتُ جزءًا من خطاب يناصر المرأة، كاتب وناشط بنفس المجال، درست دراسات النسوية، تعمقت في مفاهيمها، وكنت أرى - مثل كثيرين - أن الرجل متمتع بكل شيء، وأن المرأة مظلومة في كل شيء. لكن حين اقتربت من قضايا الواقع، حين رأيت رجالًا يبكون عند أبواب المحاكم لأنهم حُرموا من رؤية أطفالهم، حين شاهدت رجالًا يتبددون بين القلق والاكتئاب بسبب حضانة أُخذت منهم ظلمًا، حين سمعت حكايات رجال طلقوا تعسفًا وهم لم يملكوا حتى حق الدفاع عن أنفسهم، حين رأيت حالات “تفريق للشقاق والنزاع” تُستخدم كسيف لا كعدالة… تغيّر شيء داخلي بقوة.
وحين رأيت رجالًا يقفون عاجزين أمام قاضٍ لأنهم لا يستطيعون دفع نفقة لزوجة تعمل براتب كامل، بينما يُفرض عليهم العبء الاقتصادي وحدهم باسم القانون والتقليد؛ حين رأيت المجتمع يصف كل رجل بأنه جاف، وقاسٍ، وذو امتياز، بينما يُستغل بعض الرجال في قضايا تحرش كيدية أو شكاوى بلا دليل، فقط لأن “المجتمع رحيم بالمرأة”… عندها، انفتح في داخلي باب لم يعد يُغلق.
ثم رأيت ما هو أصعب..رجال ينتحرون، رجال ضاقت بهم الحياة. رجال فقدوا وظائفهم في سوق عمل أصبح يدفع نحو “مساواة قسرية” ففي سوق العمل الاردني مليون ونصف مشتغل، اكثر من ثلثهم أي نصف مليون مراة ولكن هناك نصف مليون رجل عاطل عن العمل لماذا!؟، بينما لا تزال الأسرة الاردنية بل والعربية ترى الرجل “المُنفِق الأول” والعمود الاقتصادي… أي تناقض أكبر من هذا؟ كيف يُطلب من الرجل الإنفاق بالقانون والعرف والعادات بينما يُقصى من الفرص؟ وكيف يُلام على عجزه بعد أن تُغلق الأبواب في وجهه؟ ثم يربط هذا المجتمع مفهوم الرجولة بالانفاق!!! ما هذا الذي نصنعه؟
وفي الوقت ذاته، ظهرت في الغرب نسويات يعترفن بأنهن ساهمن في تشويه صورة الرجل، مثل ليزا بريتون، التي قالت صراحة: “لقد بالغنا، لقد ظلمنا الرجال، لقد شيطنّا الرجل، وآن الوقت للعودة للإنصاف.” وظهرت نساء أخريات يتحدثن بجرأة عن ضرورة إعادة النظر في قوانين الأسرة والحضانة، حتى في العالم العربي سمعنا أصواتًا نسائية تطالب بالحضانة المشتركة، وترى الرجل شريكًا لا خصمًا… وهذا بحد ذاته ولادة وعي جديد، ليس ذكوريًا ولا نسويًا، بل إنسانيًا.
إذا كانت النسوية الغربية قد قادت المجتمع إلى أزمة زواج، إلى أسر مفككة، إلى أمهات وحيدات، إلى أطفال بلا آباء، إلى رجال يهربون من الزواج لأنه بات مخاطرة قانونية… فالسؤال هنا: لماذا نكرر نحن في العالم العربي نفس المسار؟ لماذا نزرع بذور الانقسام ونحن مجتمع يتميز أصلاً بما افتقده الغرب: الدفء العاطفي، الرابطة الأسرية، المشاعر الرحيمة، والذكورة العربية التي تُجسد الاحتواء لا القمع، والأنوثة العربية التي تُجسد الحب لا الصراع؟ لماذا نذهب إلى الوادي نفسه الذي سقط فيه غيرنا، بينما السماء فوقنا تقول لنا: توقفوا، فكروا، أعيدوا التوازن قبل فوات الأوان؟
من هنا تتشكل الفكرة الأعمق: نحن بحاجة إلى نموذج ثالث. لا نموذج نسوي صدامي، ولا نموذج ذكوري صدامي. لا إقصاء الرجل ولا إقصاء المرأة. لا امتياز لجنس على آخر، ولا تحويل العلاقة إلى حرب. نحن بحاجة إلى نموذج يبدأ من نقطة التقاء جديدة، نقطة تقول:
"دعونا نفهم بعض… قبل أن نحاكم بعض. دعونا نقترب… قبل أن نتبادل الاتهامات. دعونا نرى الإنسان… وان نرى أنا والآخر بدأ ان نرى أنفسنا..
نموذج ثالث، يتبعه “طروحة رابعة”، تولد من رحم التفاهم، لا من رحم الاحتراب؛ طروحة تدمج العقل بالرحمة، الذكورة بالاحتواء، الأنوثة بالحب، المعرفة بالتجربة، التجربة بالإيمان، ثم تضع الإنسان - رجلًا وامرأة - في مكانه الصحيح، كما خلقه الله: شريكين في البناء، لا خصمين في الصراع.
وهذه دعوة، دعوة لكل الأطراف..للرجال، للنساء، للنسويات، لحركات الرجال، للجميع...دعوة لوقف الشحن، ووقف التشهير، ووقف الكراهية، ووقف إعادة إنتافراس عوض
باحث في دراسات الاجتماع والرجل والمراة
في الغرب، اكتشفت نسويات كثيرات، صدمن بالواقع، منهم، كارن ستروان و هيلين سميث الصورة التي رُسمت للرجل - بصفته جانيًا، متغولًا، مستفيدًا، ممتلكًا لكل الامتيازات - ليست الحقيقة الكاملة، بل نصف الحقيقة، والنصف الآخر تم إخفاؤه عمدًا داخل الخطاب الذي أراد للمرأة أن تكون ملاكًا دائمًا، والرجل شيطانًا دائمًا. لكن الزمن لا يحمي الأساطير والمبالغات، وحين ظهرت المآسي في قلب المجتمعات الغربية نفسها- ملايين الأمهات الوحيدات، أطفال بلا آباء، شباب بلا سند، مؤسسات زواج منهارة، انفلات جنسي بلا معنى، ومجتمعات تذوب فيها الروابط - بدأت النسويات يشعرن بأن الإيديولوجيا التي تبنّينها أخفت جزءًا من الحقيقة… وأن الرجل أيضًا كان ضحية في سياقات كثيرة، لكن لم يكن مسموحًا الاعتراف بذلك.
تجاربهن الذاتية قادتهن إلى هذا التحوّل.. وجوه الرجال المنهارين في جلسات العلاج، اعترافات الشباب الذين خسروا أبناءهم، الرجال الذين تم اتهامهم ظلمًا، من خسروا عملهم أو حياتهم أو صحتهم النفسية أمام قوانين لا تراهم إلا من زاوية واحدة… كل ذلك خلق صدمة داخلية في وعي كثير من النساء اللواتي كنّ جزءًا من الحركة النسوية نفسها. اكتشفن أنهن شاركن - بغير قصد - في إنتاج سردية غير عادلة، وأن الاعتراف بآلام الرجال ليس خيانة للنساء، بل خطوة لإعادة الإنسان إلى مركز النقاش، بدل السجال العقيم بين “الذكور” و“الإناث”.
وهذا ما حدث معي تمامًا. كنتُ جزءًا من خطاب يناصر المرأة، كاتب وناشط بنفس المجال، درست دراسات النسوية، تعمقت في مفاهيمها، وكنت أرى - مثل كثيرين - أن الرجل متمتع بكل شيء، وأن المرأة مظلومة في كل شيء. لكن حين اقتربت من قضايا الواقع، حين رأيت رجالًا يبكون عند أبواب المحاكم لأنهم حُرموا من رؤية أطفالهم، حين شاهدت رجالًا يتبددون بين القلق والاكتئاب بسبب حضانة أُخذت منهم ظلمًا، حين سمعت حكايات رجال طلقوا تعسفًا وهم لم يملكوا حتى حق الدفاع عن أنفسهم، حين رأيت حالات “تفريق للشقاق والنزاع” تُستخدم كسيف لا كعدالة… تغيّر شيء داخلي بقوة.
وحين رأيت رجالًا يقفون عاجزين أمام قاضٍ لأنهم لا يستطيعون دفع نفقة لزوجة تعمل براتب كامل، بينما يُفرض عليهم العبء الاقتصادي وحدهم باسم القانون والتقليد؛ حين رأيت المجتمع يصف كل رجل بأنه جاف، وقاسٍ، وذو امتياز، بينما يُستغل بعض الرجال في قضايا تحرش كيدية أو شكاوى بلا دليل، فقط لأن “المجتمع رحيم بالمرأة”… عندها، انفتح في داخلي باب لم يعد يُغلق.
ثم رأيت ما هو أصعب..رجال ينتحرون، رجال ضاقت بهم الحياة. رجال فقدوا وظائفهم في سوق عمل أصبح يدفع نحو “مساواة قسرية” ففي سوق العمل الاردني مليون ونصف مشتغل، اكثر من ثلثهم أي نصف مليون مراة ولكن هناك نصف مليون رجل عاطل عن العمل لماذا!؟، بينما لا تزال الأسرة الاردنية بل والعربية ترى الرجل “المُنفِق الأول” والعمود الاقتصادي… أي تناقض أكبر من هذا؟ كيف يُطلب من الرجل الإنفاق بالقانون والعرف والعادات بينما يُقصى من الفرص؟ وكيف يُلام على عجزه بعد أن تُغلق الأبواب في وجهه؟ ثم يربط هذا المجتمع مفهوم الرجولة بالانفاق!!! ما هذا الذي نصنعه؟
وفي الوقت ذاته، ظهرت في الغرب نسويات يعترفن بأنهن ساهمن في تشويه صورة الرجل، مثل ليزا بريتون، التي قالت صراحة: “لقد بالغنا، لقد ظلمنا الرجال، لقد شيطنّا الرجل، وآن الوقت للعودة للإنصاف.” وظهرت نساء أخريات يتحدثن بجرأة عن ضرورة إعادة النظر في قوانين الأسرة والحضانة، حتى في العالم العربي سمعنا أصواتًا نسائية تطالب بالحضانة المشتركة، وترى الرجل شريكًا لا خصمًا… وهذا بحد ذاته ولادة وعي جديد، ليس ذكوريًا ولا نسويًا، بل إنسانيًا.
إذا كانت النسوية الغربية قد قادت المجتمع إلى أزمة زواج، إلى أسر مفككة، إلى أمهات وحيدات، إلى أطفال بلا آباء، إلى رجال يهربون من الزواج لأنه بات مخاطرة قانونية… فالسؤال هنا: لماذا نكرر نحن في العالم العربي نفس المسار؟ لماذا نزرع بذور الانقسام ونحن مجتمع يتميز أصلاً بما افتقده الغرب: الدفء العاطفي، الرابطة الأسرية، المشاعر الرحيمة، والذكورة العربية التي تُجسد الاحتواء لا القمع، والأنوثة العربية التي تُجسد الحب لا الصراع؟ لماذا نذهب إلى الوادي نفسه الذي سقط فيه غيرنا، بينما السماء فوقنا تقول لنا: توقفوا، فكروا، أعيدوا التوازن قبل فوات الأوان؟
من هنا تتشكل الفكرة الأعمق: نحن بحاجة إلى نموذج ثالث. لا نموذج نسوي صدامي، ولا نموذج ذكوري صدامي. لا إقصاء الرجل ولا إقصاء المرأة. لا امتياز لجنس على آخر، ولا تحويل العلاقة إلى حرب. نحن بحاجة إلى نموذج يبدأ من نقطة التقاء جديدة، نقطة تقول:
"دعونا نفهم بعض… قبل أن نحاكم بعض. دعونا نقترب… قبل أن نتبادل الاتهامات. دعونا نرى الإنسان… وان نرى أنا والآخر بدأ ان نرى أنفسنا..
نموذج ثالث، يتبعه “طروحة رابعة”، تولد من رحم التفاهم، لا من رحم الاحتراب؛ طروحة تدمج العقل بالرحمة، الذكورة بالاحتواء، الأنوثة بالحب، المعرفة بالتجربة، التجربة بالإيمان، ثم تضع الإنسان - رجلًا وامرأة - في مكانه الصحيح، كما خلقه الله: شريكين في البناء، لا خصمين في الصراع.
وهذه دعوة، دعوة لكل الأطراف..للرجال، للنساء، للنسويات، لحركات الرجال، للجميع...دعوة لوقف الشحن، ووقف التشهير، ووقف الكراهية، ووقف إعادة إنتافراس عوض
باحث في دراسات الاجتماع والرجل والمراة
نيسان ـ نشر في 2025-11-25 الساعة 09:19
رأي: فراس عوض كاتب


