نيسان ـ نشر في 2025-12-12 الساعة 12:26
نيسان ـ في زمن باتت فيه الخوارزميات نبض العصر، تطل القصيدة العربية من شرفة التاريخ العريق، كشاهد على أمجاد تليدة ووهج لا يخفت.
لكن، هل سيبقى هذا الوهج ساطعاً في حين تتهيأ الساحات لمنافس يمتلك ذاكرة بحجم الكون، وقدرة على النظم تضاهي أحياناً قدرة البشر؟
ليس الذكاء الاصطناعي مجرد مصطلح تقني يتردد صداه في أروقة المختبرات، بل ثورة تزحف بخطى ثابتة نحو عوالم الإبداع التي هي سمة الروح البشرية المتفردة، بما في ذلك فن العرب الأول الذي هو ديوانهم وسجل مآثرهم وسيرهم، وهذا يفرض وقفة متأنية تبحث حقيقة القضية التي تهدد عمود الثقافة العربية، نغوص من خلالها في أعماق العلاقة الشائكة بين عبقرية الكلمة وبرودة الأكواد التي يكتبها العقل الآلي.
وفي هذا التحقيق، تصحب «البيان» قراءها في رحلة تجيب عن التساؤلات المؤرقة بهذا الصدد، وتضع الملف بين أيدي نخبة من شعراء مبدعين ونقاد لهم باع في تحكيم جوائز أدبية في الوطن العربي، محاولةً رسم تصورات عن مستقبل الشعر العربي المحفوف بمخاطر تطورات التقنيات المتسارعة.
يؤكد الشاعر الإماراتي الدكتور طلال الجنيبي أن ثورة الذكاء الاصطناعي تشكل تحدياً كبيراً لواقع الشعر العربي المتراجع أصلاً بفعل التراجع الحضاري المشهود على أكثر من صعيد، مشيراً إلى أن الخطورة لا تقع إلا على الشعر الأشبه بالنظم الذي ينتجه أنصاف الموهوبين، ولا يمثل القصائد اللامعة المتشبعة بالهوية الأصيلة.
ويقول: «ثمة وجه آخر إيجابي لتلك القضية، وهو أن هذا التحدي قد يحمل في طياته فرصة سانحة لطرد النصوص الرديئة النمطية والقصائد التقليدية من ساحة الإبداع الشعري الحقيقي، بحيث لا يبقى حينها إلا الفئة المبدعة التي تمتلك الموهبة المكتملة القادرة على تقديم الأعمال المختلفة مبنى ومعنى وشكلاً ومضموناً».
ويعتقد الجنيبي أن الدراسات العلمية التي تدعي قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة أشعار كبار الشعراء تشتمل على شيء من التجني وعدم الدقة، موضحاً أن «شات جي بي تي» وغيره من التقنيات ربما تتمكن من صياغة قصائد تتسم باكتمال الشروط الشكلية، ولكن إبداع القصيدة التي يسكب فيها الشاعر من روحه ويصنع فيها رؤيته الجديدة يبقى عصياً على الأدوات المعتمدة على تقليد النماذج المحفوظة.
ويرى أن قصيدة النثر ستكون أول ما تعصف به ثورة الذكاء الاصطناعي بسبب ضوابطها الفضفاضة، وأن قصيدتي البيت والتفعيلة ليستا بمنأى عن تلك الخطورة، لافتاً إلى أن الرهان الحقيقي سيكون على المضمون، فهو المحك الذي لن ينجح الذكاء الاصطناعي فيه؛ لأن الجديد لا يتأتى إلا لتجربة إنسانية مبتكرة.
ويتوقع الشاعر اللبناني شوقي بزيع أن المستقبل سيكون دائماً للشعر مضافاً إليه الأشياء الأخرى كالتقنيات والعلم والذكاء الاصطناعي وما سوى ذلك؛ لأنه ثبت مع الزمن أن الشعر استطاع أن يتجاوز كل منافسيه ومن عملوا على وأده، لافتاً إلى أن الشعر نقيض كل ما هو مصطنع؛ لأنه الانبثاق التلقائي داخل النفس ومحو الافتعال، فهو يذوب في داخله كل العناصر التي يمكن أن تدخل في تكوينه؛ ولذلك لا قبل للذكاء الاصطناعي بأن يقتحم عالمه.
ويعرب بزيع عن عدم اهتمامه بأي دراسات تسعى لإثبات قدرة للذكاء الاصطناعي على محاكاة الشعر، مشيراً إلى أن النسخ المكررة بفعل شعراء أو تقنيات ليست سوى ظل باهت للنسخ الأصلية التي تحمل داخلها شيئاً يتعدى التكنولوجيا ويتعلق بروح الإنسان وقلبه وأعصابه، ومن ثم لا يمكن مضاهاته.
ويقول: «في الشعر شيء يستعصي على التقليد، وأنا مطمئن بأن ذلك الفن سيظل أبداً مرافقاً للإنسان، وسيبقى سلاحه الأمضى، سواء في ذلك القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر»، مؤكداً أن الأوزان والقوافي ليست جدراناً حتى تقي الشعر من اقتحام الذكاء الاصطناعي، وربما هي جدران أمام الشعر الحقيقي يتخفى النظامون وراء جرسها وإيقاعاتها الوزنية التطريبية.
سر إنساني
ويرى الشاعر المصري الدكتور علاء جانب، أستاذ الأدب والنقد، عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، أن الذكاء الاصطناعي عقل داخل آلة، وأن الذكاء الطبيعي تفكير بعقل حي، وأن في الشعر شيئاً إنسانياً لا يمكن السيطرة عليه، مشيراً إلى أنه لكي يكون الشعر مكتوباً بالذكاء الاصطناعي، لا بد من قارئ جامد غايته إتمام العمل بنجاح فحسب؛ ولذا فالشعر سيبقى ما بقي الإنسان.
ويستبعد علاء جانب أن تكون لدى الذكاء الاصطناعي قدرة على تقليد وليام شكسبير مثلاً الذي يعد في الإنجليزية مثل أبي الطيب المتنبي في العربية؛ لأن العبقريات الكبيرة لا يمكن تكرارها، في حين يمكن صناعة ما يشبه قصائد تي. إس. إليوت؛ لكثرة معلوماتها وإحالاتها المعرفية، لافتاً إلى أن غير العرب لا يبحثون عن جماليات وطرب بقدر ما يبحثون عن التفاعل مع الكلام الرهيف، ثم لا يعنيهم من القائل، ولا كيف ومتى وبأي دافع قال الشعر.
وعن مدى أهمية قواعد الشعر العربي من أوزان وقوافٍ وغيرها وقدرتها على أن تشكل جداراً منيعاً من اختراق الذكاء الاصطناعي، يوضح أنه لا يوجد فن متحرر من كل شيء، مضيفاً: «هل عبث بالشعر إلا الصغار المتشاعرون؟ أتقنوا اللغة والوزن والقافية، لكن حياتهم بلا تجارب إنسانية كبيرة، ويريد الطفل أن يصبح زهير بن أبي سلمى، وهو في مراهقة فكرية وشعرية وعلمية وحياتية».
مقاومة الاصطناع
ويعتقد الشاعر العراقي خالد الحسن أن الشعر العربي يظل، بالرغم مما يحدث في العالم من تحولات رقمية جذرية، الفن الأكثر مقاومة للاصطناع، وأن الذكاء الاصطناعي يمكنه محاكاة الإيقاع وبناء الصورة وتوليد المعنى، لكنه عاجز عن تمثل الوجدان الإنساني والتقاط الارتجافة التي تسبق ولادة القصيدة، مؤكداً أن الشعر ليس نظاماً لغوياً فقط، بل تجربة وجودية تتخلق من الألم والرؤيا والحدس، وهي عناصر لا يمكن لأي خوارزمية أن تستنسخها.
ويشير الحسن إلى أن الدراسات التي تقارن نتاج الذكاء الاصطناعي بقصائد شكسبير أو إليوت تختبر الشكل لا الروح، وأن الآلة يمكنها أن تكتب قصيدة تشبه القصيدة، لكنها تظل بلا قلق ولا حياة، موضحاً أن قواعد العروض تمنح الشعر العربي حصانة جمالية ضد الغزو الرقمي؛ لكونها ذاكرة صوتية تمتد في وجدان الأمة، في حين تبقى قصيدة النثر الميدان الأكثر تعرضاً للاشتباه، لكنها أيضاً الأقدر على تذكيرنا بجوهر الشعر الكامن في الوهج الإنساني.
تحولات رقمية
ويلفت الشاعر المغربي عمر الراجي إلى أن التحولات الرقمية تمنح أفقاً للمبدعين والباحثين عن الإبحار في المتن الشعري والثقافي، معرباً عن رفضه أن تصبح التقنية بحد ذاتها فاعلاً إبداعياً مستقلاً؛ لأنها بلا شك عاجزة عن تعويض العمق الإنساني للقصيدة، والروح الشعرية التي يتحلى بها الشاعر القلق المشتعل بنار الأسئلة وابتكار الصور.
ويقول: «الشعر العربي يستمد قوته من الوجدان والتجربة الحياتية الذاتية والجماعية، وهي أمور يصعب على الذكاء الاصطناعي محاكاتها، ولا ينبغي أن نغفل مسألة الذائقة الفنية للقراء، فمتى ما تردت هذه الذائقة لا يعول على تقييم قصيدة بحجم التصفيق لها في المحافل، ويمكن أن يكتب شاعر قصيدة ركيكة ويقرأها أمام جمهور لا وعي ثقافي له، فيعجب بها وكأنها المعلقة».
ويرى الراجي أن أوزان الشعر العربي وقوافيه قواعد صلبة في الشعر البيتي وشعر التفعيلة تتطلب حساسية إيقاعية وثقافية، وأن الخوارزميات لو نجحت في خلق منظومة عروضية صحيحة في البيت، فهي قاصرة عن إيجاد لغة سليمة مناسبة لا تكسر الوزن، مؤكداً أنها بعيدة عن خلق الصورة، مع الحفاظ على اللغة والإيقاع، والعناصر الأخرى كالتجربة الثقافية، والعمق الإنساني، والحساسيات النفسية، وغيرها.
مشكلات نقدية
ويوضح الكاتب والأديب الإماراتي عبد الحميد أحمد، الأمين العام لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، أن الذكاء الاصطناعي سيتسبب في مشكلات تتعلق بالحكم النقدي على الإبداعات الشعرية؛ لأنه قادر على إنتاج قصائد لا تخلو من النظم والصنعة الجيدة، مؤكداً أن الذكاء البشري سيتمكن من اكتشاف الشعر الأصيل وتمييز النصوص المصنوعة، وأن على النقاد في العصر الراهن أن يتحلوا بالحذر الكافي حتى لا يقعوا في هذا الفخ.
ويقول: «الشاعر الأصيل لن يلجأ إلى الآلة لتساعده كشأن بعض شباب الجيل الجديد الذين تثير شغفهم رغبة التجريب لبلوغ الشهرة سريعاً واجتذاب الأضواء»، لافتاً إلى أن خطورة الذكاء الاصطناعي أشد على الأشكال الأدبية الأخرى مثل الرواية والقصة القصيرة؛ لاستطاعته أن يأتي بنصوص تتسم بالتميز من حيث الحبكة والدراما والحوار وما شابه ذلك.
ويبين عبد الحميد أحمد أن السر يكمن في النسيج الإبداعي الذي يكشف زيف القصيدة المصنوعة مقارنة بالطبيعة البشرية التي تتوافر في قصائد الشعراء الحقيقيين، مستبعداً أن تشكل الأوزان والقوافي أسواراً حصينة من الذكاء الاصطناعي القادر على نظم كلام موزون ومقفى بمحاكاة النماذج المخزنة في ذاكرته.
ويشير إلى أن لجان التحكيم في جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية لا تواجه في الوقت الحالي أي تحديات بهذا الخصوص؛ لأن جميع المتقدمين إلى الجائزة هم من الشعراء والأدباء المعروفين الذين سبقوا الذكاء الاصطناعي بما يملكونه من تاريخ إبداعي عريق، مضيفاً: «لا يعني هذا عدم الاستعداد مستقبلاً لهذا التحدي الذي يمكن التغلب عليه بالبرامج الفعالة في تحديد مدى استخدام الذكاء الاصطناعي ونسبة تدخله في النص الشعري».
علاقة شائكة
ويصف الناقد المصري الدكتور محمد مصطفى أبو شوارب، أستاذ الأدب والنقد العربي بجامعة الإسكندرية، نائب الأمين العام في مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، علاقة الذكاء الاصطناعي بالشعر ونقده بأنها ملتبسة من وجوه عدة، موضحاً أن الالتجاء إلى التقنيات لصياغة نصوص لم يسمح بادعاء ممارسة الكتابة الشعرية فحسب، بل ربما بات يغوي بعض الشعراء بالحصول على نسخ أولية لمشروعات نصوص يعملون على تطويرها.
ويشير إلى أن هذا الأمر مكن من الحصول على بدائل وخيارات متعددة لما يعترض بعض الشعراء من مشكلات فنية، ومن المحتمل أن يستند بعض النقاد إلى الذكاء الاصطناعي في تعاملاتهم مع النصوص الشعرية، قائلاً: «في قناعتي أن الإبداع النقدي، تقييماً وتفسيراً وتأويلاً، لا يمكن أن ينهض على غير موهبة الناقد الخاصة وخبرته وثقافته ومواقفه الشخصية وحساسيته الفنية والفكرية إزاء النص الشعري وإزاء مناهج قراءته وتحليله».
ويضيف: «ذلك ما يجعلني موقناً بأن مقومات الناقد كفيلة بمنحه القدرة على اكتشاف الأصالة ونفي الزيف، وأن ما تقدمه تقنيات الذكاء الاصطناعي، برغم تطورها المطرد، مفتقر إلى حيوية الشعر الفنية الصادرة عن معاناة إنسانية خالصة تجاه العالم وإحساس خاص باللغة، ما يجعلها بمنزلة شفرة بين القارئ والنص».
ويبين أن ذلك التصور هو ما يعول عليه النقاد أصحاب التجارب الفنية الواسعة، ومنهم بطبيعة الحال محكمو جوائز مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، معتقداً بأن ذلك يسهم في تحجيم الظاهرة الاصطناعية التي قد تفضي إلى شيء من الاجتراء على الشعر، لكنها لا تمنح الشاعرية فرداً لا يتمتع بها، أو تكسب الشعرية نصاً يفتقر إليها.
سرقات وانتحالات
ويشرح الشاعر المغربي مخلص الصغير، مدير دار الشعر في تطوان، الطريقة التي يعتمدها هو وبعض المحكمين في المسابقات الشعرية لاكتشاف النص المولد بالذكاء الاصطناعي، قائلاً: «نأخذ مقطعاً من النص ونضعه في محرك «غوغل» لتتبع السرقات والانتحالات، والطريقة ذاتها جربتها مع الذكاء الاصطناعي.
حين تأخذ مقاطع من النصوص وتقترح على برامج الذكاء الاصطناعي الكتابة، يأتيك بنصوص شبيهة أو رديفة من حيث الأفكار والمفردات والترتيب، والأخطاء أيضاً».
ويؤكد أن الذكاء الاصطناعي لا يقدم سوى ما أنتجه الإنسان، بعد إعادة بنائه وإنتاج خطاب جديد، ومن ثم فإنه لا يضيف معرفة، بل يوفر المعلومات المطروحة في الطريق، موضحاً أنه يخلو من الإبداع والشعرية، ويقع في مغالطات وأخطاء جسيمة؛ ولذا يمكن الاستعانة به كمحرك بحث أو مساعد رقمي للوصول إلى المعلومات وتذكرها، مع إدراك أنه لا يتمتع بالملكات الإنسانية التي في مقدمتها النسيان.
ويضيف: «حين تطلب من الذكاء الاصطناعي تحرير موضوع، فإنه يتذكر كل شيء، ولا يستطيع أن ينسى وينتقي ويختار وينحاز ويتعاطف مع فكرة أو يتفاعل وجدانياً، أي أنه مصدر أو مرجع لا يضيف شيئاً إلى المعرفة الإنسانية، لكنه يذكرنا بها»، مشيراً إلى أن استخدامه بذكاء يسهم في تطوير المعرفة الإنسانية.
دراستان علميتان
وفي السياق ذاته، تحدثت دراسة لجامعة بيتسبرغ، نشرتها مجلة «ساينتفيك ريبورتس» في نوفمبر 2024، عن صعوبات لدى القراء غير المتخصصين في تمييز القصائد التي يولدها «شات جي بي تي» عما كتبه شعراء مشهورون.
واعتقد %75 من عينة البحث أن قصائد الذكاء الاصطناعي هي من تأليف بشري، وصنفوها على أنها أفضل وأسهل للقراءة من القصائد البشرية.
وأظهرت دراسة أجراها الباحث علاء عبد الخالق حسين المندلاوي، ونشرت نتائجها في موقع «مؤسسة العراقة للثقافة والتنمية»، في يوليو 2025، أن الذكاء الاصطناعي أحرز تقدماً في محاكاة القواعد الشكلية للشعر العربي، مثل الالتزام بالبحور الشعرية وقواعد القافية، لكنه أوضح أن ثمة فجوة عميقة بين المحاكاة التقنية والإبداع البشري الحقيقي.
تجربة عملية
خلال تجربة عملية أجريناها بواسطة برنامج «شات جي بي تي»، طلبنا منه أن ينظم قصيدة عربية من الشعر البيتي على بحر الطويل تصف مشهد غروب الشمس، فكانت النتيجة أن صاغ النص الآتي:
والملاحظ في هذا النص المولد بالذكاء الاصطناعي، الذي جاء على صورة 5 أبيات، أنه ينم عن عدم إدراك لمصطلح القصيدة التي تشتمل على 7 أبيات فصاعداً في الرأي المشهور لدى علماء العروض والقافية، مع وجود كسر في وزن بيتين، وخلل واضح في القوافي التي جاءت متباينة الحروف والحركات، إضافة إلى إهمال ألف الإطلاق التي تلحق القوافي المفتوحة.
لكن، هل سيبقى هذا الوهج ساطعاً في حين تتهيأ الساحات لمنافس يمتلك ذاكرة بحجم الكون، وقدرة على النظم تضاهي أحياناً قدرة البشر؟
ليس الذكاء الاصطناعي مجرد مصطلح تقني يتردد صداه في أروقة المختبرات، بل ثورة تزحف بخطى ثابتة نحو عوالم الإبداع التي هي سمة الروح البشرية المتفردة، بما في ذلك فن العرب الأول الذي هو ديوانهم وسجل مآثرهم وسيرهم، وهذا يفرض وقفة متأنية تبحث حقيقة القضية التي تهدد عمود الثقافة العربية، نغوص من خلالها في أعماق العلاقة الشائكة بين عبقرية الكلمة وبرودة الأكواد التي يكتبها العقل الآلي.
وفي هذا التحقيق، تصحب «البيان» قراءها في رحلة تجيب عن التساؤلات المؤرقة بهذا الصدد، وتضع الملف بين أيدي نخبة من شعراء مبدعين ونقاد لهم باع في تحكيم جوائز أدبية في الوطن العربي، محاولةً رسم تصورات عن مستقبل الشعر العربي المحفوف بمخاطر تطورات التقنيات المتسارعة.
يؤكد الشاعر الإماراتي الدكتور طلال الجنيبي أن ثورة الذكاء الاصطناعي تشكل تحدياً كبيراً لواقع الشعر العربي المتراجع أصلاً بفعل التراجع الحضاري المشهود على أكثر من صعيد، مشيراً إلى أن الخطورة لا تقع إلا على الشعر الأشبه بالنظم الذي ينتجه أنصاف الموهوبين، ولا يمثل القصائد اللامعة المتشبعة بالهوية الأصيلة.
ويقول: «ثمة وجه آخر إيجابي لتلك القضية، وهو أن هذا التحدي قد يحمل في طياته فرصة سانحة لطرد النصوص الرديئة النمطية والقصائد التقليدية من ساحة الإبداع الشعري الحقيقي، بحيث لا يبقى حينها إلا الفئة المبدعة التي تمتلك الموهبة المكتملة القادرة على تقديم الأعمال المختلفة مبنى ومعنى وشكلاً ومضموناً».
ويعتقد الجنيبي أن الدراسات العلمية التي تدعي قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة أشعار كبار الشعراء تشتمل على شيء من التجني وعدم الدقة، موضحاً أن «شات جي بي تي» وغيره من التقنيات ربما تتمكن من صياغة قصائد تتسم باكتمال الشروط الشكلية، ولكن إبداع القصيدة التي يسكب فيها الشاعر من روحه ويصنع فيها رؤيته الجديدة يبقى عصياً على الأدوات المعتمدة على تقليد النماذج المحفوظة.
ويرى أن قصيدة النثر ستكون أول ما تعصف به ثورة الذكاء الاصطناعي بسبب ضوابطها الفضفاضة، وأن قصيدتي البيت والتفعيلة ليستا بمنأى عن تلك الخطورة، لافتاً إلى أن الرهان الحقيقي سيكون على المضمون، فهو المحك الذي لن ينجح الذكاء الاصطناعي فيه؛ لأن الجديد لا يتأتى إلا لتجربة إنسانية مبتكرة.
ويتوقع الشاعر اللبناني شوقي بزيع أن المستقبل سيكون دائماً للشعر مضافاً إليه الأشياء الأخرى كالتقنيات والعلم والذكاء الاصطناعي وما سوى ذلك؛ لأنه ثبت مع الزمن أن الشعر استطاع أن يتجاوز كل منافسيه ومن عملوا على وأده، لافتاً إلى أن الشعر نقيض كل ما هو مصطنع؛ لأنه الانبثاق التلقائي داخل النفس ومحو الافتعال، فهو يذوب في داخله كل العناصر التي يمكن أن تدخل في تكوينه؛ ولذلك لا قبل للذكاء الاصطناعي بأن يقتحم عالمه.
ويعرب بزيع عن عدم اهتمامه بأي دراسات تسعى لإثبات قدرة للذكاء الاصطناعي على محاكاة الشعر، مشيراً إلى أن النسخ المكررة بفعل شعراء أو تقنيات ليست سوى ظل باهت للنسخ الأصلية التي تحمل داخلها شيئاً يتعدى التكنولوجيا ويتعلق بروح الإنسان وقلبه وأعصابه، ومن ثم لا يمكن مضاهاته.
ويقول: «في الشعر شيء يستعصي على التقليد، وأنا مطمئن بأن ذلك الفن سيظل أبداً مرافقاً للإنسان، وسيبقى سلاحه الأمضى، سواء في ذلك القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر»، مؤكداً أن الأوزان والقوافي ليست جدراناً حتى تقي الشعر من اقتحام الذكاء الاصطناعي، وربما هي جدران أمام الشعر الحقيقي يتخفى النظامون وراء جرسها وإيقاعاتها الوزنية التطريبية.
سر إنساني
ويرى الشاعر المصري الدكتور علاء جانب، أستاذ الأدب والنقد، عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، أن الذكاء الاصطناعي عقل داخل آلة، وأن الذكاء الطبيعي تفكير بعقل حي، وأن في الشعر شيئاً إنسانياً لا يمكن السيطرة عليه، مشيراً إلى أنه لكي يكون الشعر مكتوباً بالذكاء الاصطناعي، لا بد من قارئ جامد غايته إتمام العمل بنجاح فحسب؛ ولذا فالشعر سيبقى ما بقي الإنسان.
ويستبعد علاء جانب أن تكون لدى الذكاء الاصطناعي قدرة على تقليد وليام شكسبير مثلاً الذي يعد في الإنجليزية مثل أبي الطيب المتنبي في العربية؛ لأن العبقريات الكبيرة لا يمكن تكرارها، في حين يمكن صناعة ما يشبه قصائد تي. إس. إليوت؛ لكثرة معلوماتها وإحالاتها المعرفية، لافتاً إلى أن غير العرب لا يبحثون عن جماليات وطرب بقدر ما يبحثون عن التفاعل مع الكلام الرهيف، ثم لا يعنيهم من القائل، ولا كيف ومتى وبأي دافع قال الشعر.
وعن مدى أهمية قواعد الشعر العربي من أوزان وقوافٍ وغيرها وقدرتها على أن تشكل جداراً منيعاً من اختراق الذكاء الاصطناعي، يوضح أنه لا يوجد فن متحرر من كل شيء، مضيفاً: «هل عبث بالشعر إلا الصغار المتشاعرون؟ أتقنوا اللغة والوزن والقافية، لكن حياتهم بلا تجارب إنسانية كبيرة، ويريد الطفل أن يصبح زهير بن أبي سلمى، وهو في مراهقة فكرية وشعرية وعلمية وحياتية».
مقاومة الاصطناع
ويعتقد الشاعر العراقي خالد الحسن أن الشعر العربي يظل، بالرغم مما يحدث في العالم من تحولات رقمية جذرية، الفن الأكثر مقاومة للاصطناع، وأن الذكاء الاصطناعي يمكنه محاكاة الإيقاع وبناء الصورة وتوليد المعنى، لكنه عاجز عن تمثل الوجدان الإنساني والتقاط الارتجافة التي تسبق ولادة القصيدة، مؤكداً أن الشعر ليس نظاماً لغوياً فقط، بل تجربة وجودية تتخلق من الألم والرؤيا والحدس، وهي عناصر لا يمكن لأي خوارزمية أن تستنسخها.
ويشير الحسن إلى أن الدراسات التي تقارن نتاج الذكاء الاصطناعي بقصائد شكسبير أو إليوت تختبر الشكل لا الروح، وأن الآلة يمكنها أن تكتب قصيدة تشبه القصيدة، لكنها تظل بلا قلق ولا حياة، موضحاً أن قواعد العروض تمنح الشعر العربي حصانة جمالية ضد الغزو الرقمي؛ لكونها ذاكرة صوتية تمتد في وجدان الأمة، في حين تبقى قصيدة النثر الميدان الأكثر تعرضاً للاشتباه، لكنها أيضاً الأقدر على تذكيرنا بجوهر الشعر الكامن في الوهج الإنساني.
تحولات رقمية
ويلفت الشاعر المغربي عمر الراجي إلى أن التحولات الرقمية تمنح أفقاً للمبدعين والباحثين عن الإبحار في المتن الشعري والثقافي، معرباً عن رفضه أن تصبح التقنية بحد ذاتها فاعلاً إبداعياً مستقلاً؛ لأنها بلا شك عاجزة عن تعويض العمق الإنساني للقصيدة، والروح الشعرية التي يتحلى بها الشاعر القلق المشتعل بنار الأسئلة وابتكار الصور.
ويقول: «الشعر العربي يستمد قوته من الوجدان والتجربة الحياتية الذاتية والجماعية، وهي أمور يصعب على الذكاء الاصطناعي محاكاتها، ولا ينبغي أن نغفل مسألة الذائقة الفنية للقراء، فمتى ما تردت هذه الذائقة لا يعول على تقييم قصيدة بحجم التصفيق لها في المحافل، ويمكن أن يكتب شاعر قصيدة ركيكة ويقرأها أمام جمهور لا وعي ثقافي له، فيعجب بها وكأنها المعلقة».
ويرى الراجي أن أوزان الشعر العربي وقوافيه قواعد صلبة في الشعر البيتي وشعر التفعيلة تتطلب حساسية إيقاعية وثقافية، وأن الخوارزميات لو نجحت في خلق منظومة عروضية صحيحة في البيت، فهي قاصرة عن إيجاد لغة سليمة مناسبة لا تكسر الوزن، مؤكداً أنها بعيدة عن خلق الصورة، مع الحفاظ على اللغة والإيقاع، والعناصر الأخرى كالتجربة الثقافية، والعمق الإنساني، والحساسيات النفسية، وغيرها.
مشكلات نقدية
ويوضح الكاتب والأديب الإماراتي عبد الحميد أحمد، الأمين العام لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، أن الذكاء الاصطناعي سيتسبب في مشكلات تتعلق بالحكم النقدي على الإبداعات الشعرية؛ لأنه قادر على إنتاج قصائد لا تخلو من النظم والصنعة الجيدة، مؤكداً أن الذكاء البشري سيتمكن من اكتشاف الشعر الأصيل وتمييز النصوص المصنوعة، وأن على النقاد في العصر الراهن أن يتحلوا بالحذر الكافي حتى لا يقعوا في هذا الفخ.
ويقول: «الشاعر الأصيل لن يلجأ إلى الآلة لتساعده كشأن بعض شباب الجيل الجديد الذين تثير شغفهم رغبة التجريب لبلوغ الشهرة سريعاً واجتذاب الأضواء»، لافتاً إلى أن خطورة الذكاء الاصطناعي أشد على الأشكال الأدبية الأخرى مثل الرواية والقصة القصيرة؛ لاستطاعته أن يأتي بنصوص تتسم بالتميز من حيث الحبكة والدراما والحوار وما شابه ذلك.
ويبين عبد الحميد أحمد أن السر يكمن في النسيج الإبداعي الذي يكشف زيف القصيدة المصنوعة مقارنة بالطبيعة البشرية التي تتوافر في قصائد الشعراء الحقيقيين، مستبعداً أن تشكل الأوزان والقوافي أسواراً حصينة من الذكاء الاصطناعي القادر على نظم كلام موزون ومقفى بمحاكاة النماذج المخزنة في ذاكرته.
ويشير إلى أن لجان التحكيم في جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية لا تواجه في الوقت الحالي أي تحديات بهذا الخصوص؛ لأن جميع المتقدمين إلى الجائزة هم من الشعراء والأدباء المعروفين الذين سبقوا الذكاء الاصطناعي بما يملكونه من تاريخ إبداعي عريق، مضيفاً: «لا يعني هذا عدم الاستعداد مستقبلاً لهذا التحدي الذي يمكن التغلب عليه بالبرامج الفعالة في تحديد مدى استخدام الذكاء الاصطناعي ونسبة تدخله في النص الشعري».
علاقة شائكة
ويصف الناقد المصري الدكتور محمد مصطفى أبو شوارب، أستاذ الأدب والنقد العربي بجامعة الإسكندرية، نائب الأمين العام في مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، علاقة الذكاء الاصطناعي بالشعر ونقده بأنها ملتبسة من وجوه عدة، موضحاً أن الالتجاء إلى التقنيات لصياغة نصوص لم يسمح بادعاء ممارسة الكتابة الشعرية فحسب، بل ربما بات يغوي بعض الشعراء بالحصول على نسخ أولية لمشروعات نصوص يعملون على تطويرها.
ويشير إلى أن هذا الأمر مكن من الحصول على بدائل وخيارات متعددة لما يعترض بعض الشعراء من مشكلات فنية، ومن المحتمل أن يستند بعض النقاد إلى الذكاء الاصطناعي في تعاملاتهم مع النصوص الشعرية، قائلاً: «في قناعتي أن الإبداع النقدي، تقييماً وتفسيراً وتأويلاً، لا يمكن أن ينهض على غير موهبة الناقد الخاصة وخبرته وثقافته ومواقفه الشخصية وحساسيته الفنية والفكرية إزاء النص الشعري وإزاء مناهج قراءته وتحليله».
ويضيف: «ذلك ما يجعلني موقناً بأن مقومات الناقد كفيلة بمنحه القدرة على اكتشاف الأصالة ونفي الزيف، وأن ما تقدمه تقنيات الذكاء الاصطناعي، برغم تطورها المطرد، مفتقر إلى حيوية الشعر الفنية الصادرة عن معاناة إنسانية خالصة تجاه العالم وإحساس خاص باللغة، ما يجعلها بمنزلة شفرة بين القارئ والنص».
ويبين أن ذلك التصور هو ما يعول عليه النقاد أصحاب التجارب الفنية الواسعة، ومنهم بطبيعة الحال محكمو جوائز مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، معتقداً بأن ذلك يسهم في تحجيم الظاهرة الاصطناعية التي قد تفضي إلى شيء من الاجتراء على الشعر، لكنها لا تمنح الشاعرية فرداً لا يتمتع بها، أو تكسب الشعرية نصاً يفتقر إليها.
سرقات وانتحالات
ويشرح الشاعر المغربي مخلص الصغير، مدير دار الشعر في تطوان، الطريقة التي يعتمدها هو وبعض المحكمين في المسابقات الشعرية لاكتشاف النص المولد بالذكاء الاصطناعي، قائلاً: «نأخذ مقطعاً من النص ونضعه في محرك «غوغل» لتتبع السرقات والانتحالات، والطريقة ذاتها جربتها مع الذكاء الاصطناعي.
حين تأخذ مقاطع من النصوص وتقترح على برامج الذكاء الاصطناعي الكتابة، يأتيك بنصوص شبيهة أو رديفة من حيث الأفكار والمفردات والترتيب، والأخطاء أيضاً».
ويؤكد أن الذكاء الاصطناعي لا يقدم سوى ما أنتجه الإنسان، بعد إعادة بنائه وإنتاج خطاب جديد، ومن ثم فإنه لا يضيف معرفة، بل يوفر المعلومات المطروحة في الطريق، موضحاً أنه يخلو من الإبداع والشعرية، ويقع في مغالطات وأخطاء جسيمة؛ ولذا يمكن الاستعانة به كمحرك بحث أو مساعد رقمي للوصول إلى المعلومات وتذكرها، مع إدراك أنه لا يتمتع بالملكات الإنسانية التي في مقدمتها النسيان.
ويضيف: «حين تطلب من الذكاء الاصطناعي تحرير موضوع، فإنه يتذكر كل شيء، ولا يستطيع أن ينسى وينتقي ويختار وينحاز ويتعاطف مع فكرة أو يتفاعل وجدانياً، أي أنه مصدر أو مرجع لا يضيف شيئاً إلى المعرفة الإنسانية، لكنه يذكرنا بها»، مشيراً إلى أن استخدامه بذكاء يسهم في تطوير المعرفة الإنسانية.
دراستان علميتان
وفي السياق ذاته، تحدثت دراسة لجامعة بيتسبرغ، نشرتها مجلة «ساينتفيك ريبورتس» في نوفمبر 2024، عن صعوبات لدى القراء غير المتخصصين في تمييز القصائد التي يولدها «شات جي بي تي» عما كتبه شعراء مشهورون.
واعتقد %75 من عينة البحث أن قصائد الذكاء الاصطناعي هي من تأليف بشري، وصنفوها على أنها أفضل وأسهل للقراءة من القصائد البشرية.
وأظهرت دراسة أجراها الباحث علاء عبد الخالق حسين المندلاوي، ونشرت نتائجها في موقع «مؤسسة العراقة للثقافة والتنمية»، في يوليو 2025، أن الذكاء الاصطناعي أحرز تقدماً في محاكاة القواعد الشكلية للشعر العربي، مثل الالتزام بالبحور الشعرية وقواعد القافية، لكنه أوضح أن ثمة فجوة عميقة بين المحاكاة التقنية والإبداع البشري الحقيقي.
تجربة عملية
خلال تجربة عملية أجريناها بواسطة برنامج «شات جي بي تي»، طلبنا منه أن ينظم قصيدة عربية من الشعر البيتي على بحر الطويل تصف مشهد غروب الشمس، فكانت النتيجة أن صاغ النص الآتي:

والملاحظ في هذا النص المولد بالذكاء الاصطناعي، الذي جاء على صورة 5 أبيات، أنه ينم عن عدم إدراك لمصطلح القصيدة التي تشتمل على 7 أبيات فصاعداً في الرأي المشهور لدى علماء العروض والقافية، مع وجود كسر في وزن بيتين، وخلل واضح في القوافي التي جاءت متباينة الحروف والحركات، إضافة إلى إهمال ألف الإطلاق التي تلحق القوافي المفتوحة.


