اتصل بنا
 

النفس وعاء الأضداد

كاتبة جزائرية

نيسان ـ نشر في 2025-12-15 الساعة 17:45

نيسان ـ حَدَسُ الأَسْرَارِ يُنْشِدُنِي .... وَجَمْرُ كَتْمِي يَتَوَقَّدُ
وَرَعْدُ مَكْنُونٍ يُرَعْدِنِي .... كَصَوْتِ تَكْوِينٍ يُرَعْدُ
نِدَاءُ الْجِبِلَّةِ يَسْتَحْدِينِي .... كَوَحْيِ نُبُوَّةٍ يَتَمَرَّدُ
من هذه الأعماق الصاخبة بالصمت، وهذه العتمة المنبثقة من الجوهر، تلد الحرب الأزلية، النفس وعاء الأضداد، تلتقي في أعماقها ظلمة اللجج وضياء الذرى، ولا يكشف حجب غمارها إلا من أوتي شجاعة المواجهة وقوة البناء، فمن خاض غمرات ذاته، وأضاء مكامن ظلمتها، فقد صاغ للحياة قالباً جديداً، وخلع على الوجود رداءً لم يعهده من قبل.
ليست غابة فحسب، بل كون مصغر تتصارع فيه أنواء النور والظلمة، وينبغي لمن أراد فك أسر أغلالها أن يكون مهندسا ماهرا، يعيد تشكيل عالمه من رحم الفوضى، ويبني من شظايا الظلام قصورا للأنوار، يقال "إن الوعي جحيم"، أي جحيم هذا الذي يستوي مهدُهُ مع مصرعِهِ؟ لا يهطل عليك من علو، ولا يغزوك من بعد، بل يتفجر كالنبع الأصلي من أعماق غيابك عن نفسك، بل يولد في أعماق صمتك ذاته، إنه شرارة تقدحها الصداقة القاسية بين الروح وحقيقتها، تبدأ كهمسة ضائعة في زحام الوهم، ثم لا تلبث أن تستحيل نارا تأكل ما حولها من أوهام، وتصير وهجا لا يطاق، كلما انكشفت لك حقيقة كنت عنها غافلا.
إنه رحلة من الومضة الخاطفة إلى السؤال المقلق، ومن السؤال إلى الجرح النازف الذي يفتح فيك أبعادا لم تكن تعرف وجودها، ثم من الجرح إلى تلك المرآة المصنوعة من زجاج الضمير التي لا تكسر ولا تحابي، تريك صورتك كما هي، عارية من كل زيف، خالية من كل تبرير، حتى لتشعر أنك ترى ذاتك للمرة الأولى في حياتك، وأن كل ما سبق كان حلما طويلا لم تستيقظ منه إلا الآن.
فالوعي معرفة لا تقبل التجزئة، لا تفرق بين العقل والوجدان، ولا بين الحضور والحدس، ولا بين الرؤية والبصيرة، هو أن يسكنك شعور دائم لا ينطفئ، كسراج في ليل أبدي، هو أن تحمل في فكرك أصوات أسئلة لا تسمع، وأوزان حقائق لا يدرك ثقلها سواك، هو تلك القدرة الغريبة على رؤية ما لا يراه الناس، وعلى كشف دقائق لا يلتفت إليها إلا من منح عمق النظر و سعة الروح، وإذا انفتحت لك أبوابه، تبدل كل شيء في عينيك، فالتافه يصير عظيما بمعناه الخفي، والعظيم يهوي إلى حضيض التفاهة بفراغه الداخلي، ويجيء، كثيرًا، في أشد لحظاتك هشاشة في تلك الليلة التي ينطفئ فيها كل ضوء حولك، فلا يبقى إلا ذلك الضوء القاسي المنبعث من جوفك أنت.
وحين يأتي الصباح، ينهض الجسد مثقلاً بأثقال الليل، كلمات لم تنطق، وحقائق لم تسجل. فيجلس على حافة الروح رفيق صامت، كظل واع يلزم حد الوجود؛ لا يغفل ولا يتيح الغفلة. يرقب الفراغ بين ما كنت وما تنوي أن تكون، يعيد إليك مشاهد طويتها، ويضعك وجهاً لوجه أمام أسئلتك الكبرى؛ كأن بينك وبينه عهداً قديماً لا فكاك منه.
وأعجب ما في هذا الجحيم أنه جحيم لأنه ينير، ونوره وإن رق لا يرحم، هاتك أستار الوهم، نازع غلالة السذاجة الأولى، ومن رحم هذا الكشف المر يولد صراع خفي، بين ما تعرفه الآن، وما كنت تتمنى لو ظللت جاهلا به، بين النوم المريح والاستيقاظ على وجع الحقيقة، غير أن لهذا الجحيم في صميم عذابه هدية لا ينعم بها إلا على من صبر على لسع ناره، وواجه مرآته دون أن يحطمها هدية البصيرة، فبه يصير الإنسان أقدر على فهم ذاته، وأشد إحساسا بسريان الزمن في أعماقه، وأقرب إلى لمس المعنى المختبئ وراء ظاهر الأشياء، فيغدو الليل أكثر شفافية، واللحظة العابرة أثقل وقعا على القلب، وهكذا ندرك، و نهرب من الوعي لأنه يتعبنا، ثم نعود إليه لأن الحياة بدونه فراغ لا يطاق، نخشى ناره لأنها تحرق، ثم نطمئن إليها لأنها تنضج، نغلق أبوابه، ثم نفتحها، لأن في الظلمة التي قبله ضلال، وفي النور الذي بعده نجاة.
يعيد تشكيلنا مرة بعد أخرى، ينفض عن أرواحنا ما تراكم من غبار الأيام، يقيم فينا إنسانا آخر، أصدق نظرا، وأقوى احتمالا، وأكمل حضورا، فإن كان جحيما، فهو جحيم من يسعى إلى الخلاص، نار تصقل لا تدمر، و نور يجلي لا يعمي، ولعل أرفع ما يبلغه الإنسان أن يدرك أن هذا الجحيم بعينه هو الطريق الوحيد إلى جنة الفهم، إلى نور لا ينطفئ لأنه لا يأتي من الخارج، بل يولد من أعماق القلب الواعي.

نيسان ـ نشر في 2025-12-15 الساعة 17:45


رأي: مريم عرجون كاتبة جزائرية

الكلمات الأكثر بحثاً