اتصل بنا
 

التفاهة مهنة جديدة

رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

نيسان ـ نشر في 2025-12-17 الساعة 11:15

نيسان ـ لم تعد التفاهة طارئة على حياتنا، ولا عارضاً موسمياً يمكن احتماله ريثما تعود الأمور إلى نصابها. هي اليوم نظام عمل متكامل، له أدواته، وحراسه، ومكافآته السخية. وعلى عكس ما نحب أن نصدّق، فهي لا تزدهر لأن الناس سذج فحسب، بل لأنها تُدار بذكاء بارد، وتحالف خفي بين الخوارزميات وغرائز البشر.
في السابق، كان التفاهة تخجل من نفسها. كانت تقف على الهامش، تتسلل في استراحات الفراغ، وتنسحب عند حضور المعنى. أما اليوم فقد اعتلت المنصات، ورفعت صوتها، وصارت تطلب منا الإعجاب لا الصفح. لم يعد السؤال: ماذا أقدّم؟ بل: كيف أُرى؟ وكيف أُصدم؟ وكيف أُثير الفضول ولو على حساب العقل والذوق والكرامة.
الخوارزميات لا تفهم الأخلاق، ولا تعبأ بالمعنى. هي آلات تحصي النبضات، وتعدّ النظرات، وتكافئ كل ما يطيل زمن التحديق، حتى لو كان ذلك التحديق مشوبا بالقرف أو الدهشة السلبية. هي لا تميّز بين محتوى يرفع الإنسان، وآخر يسحبه من كاحليه إلى أسفل. المهم أن يبقى الإصبع على الشاشة، والعين معلّقة، والعقل في إجازة مفتوحة.
وهنا لا يعود الأمر ذوقاً شخصياً، ولا مسألة حرية تعبير كما يحب البعض أن يخفف وطأته. نحن أمام انزلاق ناعم وخطير في تعريف القيمة نفسها. حين يصبح الجسد اختصارا للإنسان، والصوت العالي بديلا عن الفكرة، والوقاحة دليلا على الجرأة، فنحن لا نمارس حرية، بل نعيد برمجة الوعي على قبول الرداءة بوصفها أمراً طبيعيا.
التفاهة هنا لا تكتفي بأن تكون محتوى، بل تتحول إلى عدسة نرى من خلالها العالم، وإلى معيار نقيس به النجاح، وإلى لغة يومية تفرغ الكلمات من أثقالها الأخلاقية. وحين تفقد الكلمات معناها، يفقد الإنسان بوصلته، ويصير قابلاً للتوجيه، لا بالتفكير، بل بالإغراء والصدمة والتكرار.
يظن صانع المحتوى الهابط أنه انتصر، لأنه حصد المشاهدات، وجمع المتابعين، وفتح باب الدخل السريع. لكنه في الحقيقة خضع لشروط لعبة قاسية لا ترحم أحداً. عليه أن يذهب أبعد في الإسفاف، وأعمق في الابتذال، ليبقى في الضوء. فالخوارزمية مثل وحش جائع، لا يشبع، ولا يتذكر من أطعمه أمس.
الأخطر من كل ذلك، أن هذا الضجيج المستمر يخلق وهما جمعيا بأن التفاهة هي القاعدة، وأن العمق استثناء نخبوي ثقيل الظل. فينسحب أصحاب الأسئلة، ويتوارى من يكتبون على مهل، ويُترك المجال فارغاً لمن يحسنون الرقص على الحواف.
ومع ذلك، يقول التاريخ بهدوء لا يخطئه السمع: التفاهة صاخبة لكنها قصيرة النفس، أما المعنى، وإن مشى ببطء، فهو وحده القادر على البقاء. والسؤال الذي يلاحقنا، بلا إجابة جاهزة: هل نريد أن نكون جزءاً من الضجيج، أم شهوداً على ما يستحق أن يُقال؟

نيسان ـ نشر في 2025-12-17 الساعة 11:15


رأي: رمزي الغزوي رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

الكلمات الأكثر بحثاً