المرحلة الثانية من اتفاق ترامب: حين تتحوّل الوعود إلى أداة تعطيل
نيسان ـ نشر في 2025-12-20 الساعة 13:49
نيسان ـ منذ أسابيع يتكرر الحديث، أمريكياً وإسرائيلياً، عن اقتراب المرحلة الثانية من الاتفاق الذي روّجت له إدارة دونالد ترامب، باعتباره مدخلاً لتهدئة طويلة، أو إعادة ترتيب المشهد في غزة. غير أن هذا الحديث، على كثافته، يكشف مفارقة لافتة: كلما ارتفعت وتيرة التصريحات، ازداد الغموض بشأن المضمون، وكأن المرحلة الثانية تُستَحضَر بوصفها أفقاً خطابياً أكثر منها مساراً سياسياً قابلاً للتحقق.
فما الذي يعنيه هذا الإصرار على التلويح بالمرحلة الثانية، من دون تحديد شروطها؟ وهل نحن أمام تأخير تقني أم أمام سياسة ممنهجة لإدارة الوقت واستنزاف المعنى؟ أول ما ينبغي قوله، إن «اتفاق ترامب» لم يُصَغْ أصلاً كخطة سلام، بل كإطار لإعادة ضبط الصراع بشروط إسرائيلية خالصة. المرحلة الأولى لم تكن خطوة تمهيدية لمرحلة سياسية أعمق، بل كانت تثبيتاً لوقائع: تفكيك للمرجعيات القانونية، شرعنة للاحتلال، وتحويل القضية الفلسطينية، من مسألة حقوق إلى ملف إدارة إنسانية وأمنية، وعليه، فإن الحديث عن مرحلة ثانية لا يمكن فصله عن هذه الوظيفة الأصلية للاتفاق.
في السياق الراهن، تُقدَّم المرحلة الثانية إعلامياً باعتبارها خطوة نحو «الاستقرار»؛ الإفراج عن رهائن إضافيين، إدخال مساعدات، وربما البحث في ترتيبات ما بعد الحرب. لكن ما يُغفل عمداً هو أن الاستقرار، وفق هذا الطرح، لا يعني إنهاء العدوان، أو رفع الحصار، أو مساءلة الاحتلال، بل يعني خفض كلفة السيطرة وإدامة الوضع القائم بصورة أقل انفجاراً. التصريحات الأمريكية الأخيرة، وعلى رأسها تلك المنسوبة لترامب نفسه، لا توحي بوجود تصور متكامل، بقدر ما تعكس رغبة في تسجيل إنجاز سياسي سريع. فالحديث عن بدء قريب، من دون خريطة طريق مكتوبة، أو ضمانات ملزمة، أو آليات رقابة دولية، يحوّل المرحلة الثانية إلى أداة ضغط لا إلى مشروع سياسي. تُستخدم كورقة تفاوضية، لا كالتزام.
لمرحلة الثانية من «اتفاق ترامب» ليست استحقاقاً زمنياً، بقدر ما هي اختبار سياسي. إما أن تكون نقطة تحوّل تُنهي منطق إدارة الصراع، أو تتحول، إلى عنوان آخر لتعليق الحل وتعميق الأزمة
أما في إسرائيل، فيبرز تناقض أكثر وضوحاً، في العلن، يُجري الحديث عن قبول مشروط بالمرحلة التالية، وفي الكواليس يجري استنزاف كل تفصيل: إعادة تفسير البنود، ربط الملفات ببعضها، وتوسيع هامش التأجيل بذريعة «الاعتبارات الأمنية». في هذا الإطار، تتحول المرحلة الثانية إلى ما يشبه الوعد المؤجل دائماً، الذي يُستخدم لشراء الوقت على الأرض، لا لتغييره. المعضلة الأعمق أن هذا المسار لا يجري في فراغ، فهو يستند إلى افتراض مركزي مفاده أن القضية الفلسطينية فقدت قدرتها على فرض نفسها كقضية سياسية دولية عاجلة. تراجع الأولوية، والانقسام الفلسطيني، وانشغال العالم بأزمات كبرى أخرى، كلها عوامل تُستثمر لتسويق فكرة أن ما هو متاح هو «إدارة النزاع»، لا حله.
لكن الأخطر من ذلك هو محاولة إعادة تعريف مضمون المرحلة الثانية ذاتها، فبدل أن تكون انتقالاً من وقف النار إلى معالجة جذور الصراع، يُراد لها أن تكون انتقالاً من القصف إلى الضبط، ومن الدمار الشامل إلى إعادة إنتاج السيطرة بأدوات أقل فجاجة، أي إنها مرحلة أمنية بامتياز، يلبسونها ثوباً سياسياً.
هنا تكمن الإشكالية: لا يمكن لأي مرحلة ثانية أن تنجح ما لم تُفصَل بوضوح عن منطق الابتزاز. ربط إعادة الإعمار بالتهدئة، وربط المساعدات بالترتيبات الأمنية، وربط أي أفق سياسي بالتطبيع الإقليمي، لا يصنع تسوية، بل نظاماً هشاً قابلاً للانفجار عند أول اختبار. الواقع أن السؤال الحقيقي لم يعد: متى تبدأ المرحلة الثانية؟ بل: هل يُراد لها أن تبدأ أصلاً، أم أن وظيفتها تقتصر على إدامة الانتظار؟ ففي السياسة، الوعود غير المحددة زمنياً ليست حياداً، بل قرار بالتأجيل، والتأجيل في سياق كهذا هو موقف منحاز بالكامل لصالح القوة القائمة. ومع ذلك، لا يمكن التعامل مع المرحلة الثانية كقدر محتوم. إفشال هذا المسار لا يكون برفض لفظي، ولا بالاكتفاء بتوصيف المؤامرة، بل بإعادة طرح معايير واضحة: أي اتفاق يجب أن يُقاس بمدى إنهائه للاحتلال، وضمانه للحقوق، لا بقدرته على خفض منسوب العنف مؤقتاً، وأي مرحلة سياسية لا تُعيد الاعتبار للقانون الدولي وحق تقرير المصير لن تكون أكثر من هدنة طويلة باسم جديد.
في الخلاصة، المرحلة الثانية من «اتفاق ترامب» ليست استحقاقاً زمنياً، بقدر ما هي اختبار سياسي. إما أن تكون نقطة تحوّل تُنهي منطق إدارة الصراع، أو أن تتحول، كما هو مرجّح حتى الآن، إلى عنوان آخر لتعليق الحل وتعميق الأزمة. وفي الحالتين، فإن الغموض ليس تفصيلاً تقنياً، بل جوهر المعركة الجارية على معنى السياسة ومستقبل القضية الفلسطينية.
باحث وأكاديمي فلسطيني
فما الذي يعنيه هذا الإصرار على التلويح بالمرحلة الثانية، من دون تحديد شروطها؟ وهل نحن أمام تأخير تقني أم أمام سياسة ممنهجة لإدارة الوقت واستنزاف المعنى؟ أول ما ينبغي قوله، إن «اتفاق ترامب» لم يُصَغْ أصلاً كخطة سلام، بل كإطار لإعادة ضبط الصراع بشروط إسرائيلية خالصة. المرحلة الأولى لم تكن خطوة تمهيدية لمرحلة سياسية أعمق، بل كانت تثبيتاً لوقائع: تفكيك للمرجعيات القانونية، شرعنة للاحتلال، وتحويل القضية الفلسطينية، من مسألة حقوق إلى ملف إدارة إنسانية وأمنية، وعليه، فإن الحديث عن مرحلة ثانية لا يمكن فصله عن هذه الوظيفة الأصلية للاتفاق.
في السياق الراهن، تُقدَّم المرحلة الثانية إعلامياً باعتبارها خطوة نحو «الاستقرار»؛ الإفراج عن رهائن إضافيين، إدخال مساعدات، وربما البحث في ترتيبات ما بعد الحرب. لكن ما يُغفل عمداً هو أن الاستقرار، وفق هذا الطرح، لا يعني إنهاء العدوان، أو رفع الحصار، أو مساءلة الاحتلال، بل يعني خفض كلفة السيطرة وإدامة الوضع القائم بصورة أقل انفجاراً. التصريحات الأمريكية الأخيرة، وعلى رأسها تلك المنسوبة لترامب نفسه، لا توحي بوجود تصور متكامل، بقدر ما تعكس رغبة في تسجيل إنجاز سياسي سريع. فالحديث عن بدء قريب، من دون خريطة طريق مكتوبة، أو ضمانات ملزمة، أو آليات رقابة دولية، يحوّل المرحلة الثانية إلى أداة ضغط لا إلى مشروع سياسي. تُستخدم كورقة تفاوضية، لا كالتزام.
لمرحلة الثانية من «اتفاق ترامب» ليست استحقاقاً زمنياً، بقدر ما هي اختبار سياسي. إما أن تكون نقطة تحوّل تُنهي منطق إدارة الصراع، أو تتحول، إلى عنوان آخر لتعليق الحل وتعميق الأزمة
أما في إسرائيل، فيبرز تناقض أكثر وضوحاً، في العلن، يُجري الحديث عن قبول مشروط بالمرحلة التالية، وفي الكواليس يجري استنزاف كل تفصيل: إعادة تفسير البنود، ربط الملفات ببعضها، وتوسيع هامش التأجيل بذريعة «الاعتبارات الأمنية». في هذا الإطار، تتحول المرحلة الثانية إلى ما يشبه الوعد المؤجل دائماً، الذي يُستخدم لشراء الوقت على الأرض، لا لتغييره. المعضلة الأعمق أن هذا المسار لا يجري في فراغ، فهو يستند إلى افتراض مركزي مفاده أن القضية الفلسطينية فقدت قدرتها على فرض نفسها كقضية سياسية دولية عاجلة. تراجع الأولوية، والانقسام الفلسطيني، وانشغال العالم بأزمات كبرى أخرى، كلها عوامل تُستثمر لتسويق فكرة أن ما هو متاح هو «إدارة النزاع»، لا حله.
لكن الأخطر من ذلك هو محاولة إعادة تعريف مضمون المرحلة الثانية ذاتها، فبدل أن تكون انتقالاً من وقف النار إلى معالجة جذور الصراع، يُراد لها أن تكون انتقالاً من القصف إلى الضبط، ومن الدمار الشامل إلى إعادة إنتاج السيطرة بأدوات أقل فجاجة، أي إنها مرحلة أمنية بامتياز، يلبسونها ثوباً سياسياً.
هنا تكمن الإشكالية: لا يمكن لأي مرحلة ثانية أن تنجح ما لم تُفصَل بوضوح عن منطق الابتزاز. ربط إعادة الإعمار بالتهدئة، وربط المساعدات بالترتيبات الأمنية، وربط أي أفق سياسي بالتطبيع الإقليمي، لا يصنع تسوية، بل نظاماً هشاً قابلاً للانفجار عند أول اختبار. الواقع أن السؤال الحقيقي لم يعد: متى تبدأ المرحلة الثانية؟ بل: هل يُراد لها أن تبدأ أصلاً، أم أن وظيفتها تقتصر على إدامة الانتظار؟ ففي السياسة، الوعود غير المحددة زمنياً ليست حياداً، بل قرار بالتأجيل، والتأجيل في سياق كهذا هو موقف منحاز بالكامل لصالح القوة القائمة. ومع ذلك، لا يمكن التعامل مع المرحلة الثانية كقدر محتوم. إفشال هذا المسار لا يكون برفض لفظي، ولا بالاكتفاء بتوصيف المؤامرة، بل بإعادة طرح معايير واضحة: أي اتفاق يجب أن يُقاس بمدى إنهائه للاحتلال، وضمانه للحقوق، لا بقدرته على خفض منسوب العنف مؤقتاً، وأي مرحلة سياسية لا تُعيد الاعتبار للقانون الدولي وحق تقرير المصير لن تكون أكثر من هدنة طويلة باسم جديد.
في الخلاصة، المرحلة الثانية من «اتفاق ترامب» ليست استحقاقاً زمنياً، بقدر ما هي اختبار سياسي. إما أن تكون نقطة تحوّل تُنهي منطق إدارة الصراع، أو أن تتحول، كما هو مرجّح حتى الآن، إلى عنوان آخر لتعليق الحل وتعميق الأزمة. وفي الحالتين، فإن الغموض ليس تفصيلاً تقنياً، بل جوهر المعركة الجارية على معنى السياسة ومستقبل القضية الفلسطينية.
باحث وأكاديمي فلسطيني
نيسان ـ نشر في 2025-12-20 الساعة 13:49
رأي: محمد الرجوب


