استراتيجية الأمن القومي الأمريكي… أوهام أم حقائق؟
نيسان ـ نشر في 2025-12-20 الساعة 13:50
نيسان ـ كشفت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاستراتيجية، «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية» الصادرة في نوفمبر الماضي، عن خريطة طريق للولايات المتحدة، لا تختلف كثيرا في تفاصليها عن الشعارات الديماغوجية، التي يصرح بها رئيسها منذ برنامجه الانتخابي في فترة رئاسته الأولى 2016.
وما تحمله الرؤية الاستراتيجية الجديدة، ليست جديدة في سياسات الولايات المتحدة الخارجية ورؤيتها وتقييمها للمهددات الأمنية، من عدة دول، في عالم تهمين هي على نظامه العالمي. وتريد الولايات المتحدة، كما تشير الاستراتيجية، أن تحتفظ بموقعها كقوة عظمى غير منازعة، وهو المبدأ الذي ساد بعد سقوط خصمها في الحرب الباردة الاتحاد السوفييتي، إيذانا كما عبر مفكروها بنهاية التاريخ، كما لدى فرانسيس فوكوياما وصدام الحضارات لدى صموئيل هنتنغتون من أكثر من ثلاث عقود مضت في أكبر احتفال أيديولوجي. ولكن بدأت سياسات ترامب الشعبوية وما يتعلق بالهجرة تتضح أكثر من أي استراتيجية سابقة بما سماه بانتهاء عصر الهجرة الكبير.
ولأن الأمن مصدر قلق السياسة الأمريكية، رغم موقعها الجغرافي، الذي جعلها بعيدة عن إي غزو، إلا أن فهمها للأمن القومي هو أن يكون بعيدا عن شطآنها دائما.. عبر هذا المنظور بُرّرت حروبها الوقائية، وفق تصنيف للدولة، التي تشكل محورا للشر أو المارقة. فتعرض هذه الفرضية الاستراتيجية إلى اختبار دقيق، ولم تحسم أي نزاع اشتركت فيه في البلدان التي قامت بغزوها إلا بمزيد من الخسائر مع تصاعد فاتورة الحروب. وطال أمد استراتيجية حربها على الإرهاب، وأصبحت أمة كما يرى الكاتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، قد وضعت حول نفسها مزيدا من العوازل أكثر من ذي قبل، وبذا انفصلت شعوريا عن عدد من حلفائها، وتحولت في السياق ذاته من مصدر للأمل إلى بلد يصدر مخاوفه إلى الخارج. يضاف إلى ذلك تعقيداتها الداخلية وتفاقمها كمشكلات، الضمان الاجتماعي والصحي، والهجرة والحاجة المتزايدة إلى الطاقة وقضايا الأمن الداخلي.
فما هذه الاستراتيجية التي توصف بالصلبة والواقعية، التي تفسر الارتباط الجوهري بين الغايات والوسائل، وبالتالي ما هي طبيعة المهددات التي يشير إليها التقرير، ويصنفها في الهجوم العسكري والمخدرات والاتجار في البشر وغيرها مما تتصوره من تهديد مباشر لحياة الأمريكيين. إن ما تريده الولايات المتحدة، حسب الخطة الاستراتيجية، يدخل في الخطابة البلاغية السياسية أكثر من الوقائع الاستراتيجية، فما تريده داخليا من تقوية الاقتصاد والاستغلال الأقصى للموارد لتأمين الأمة الأمريكية، والمفارقة أن استراتيجية ترامب تعدد وصفها بين سياسة خارجية براغماتية مرنة، دون أن تكون براغماتية وواقعية، ودون أن تكون واقعية وما تريده من العالم، وفق ترسيم سياساتها الخارجية، ومحيط تركيزها في النصف الغربي للكرة الأرضية استمرارا لمبدأ مونرو 1823 كما تقارنه الاستراتيجية.
إذا كانت الاستراتيجية في جانبها الاقتصادي تركز على استعادة أمريكا لقوتها في كل المجالات، إلا أن الصين لا تزال تشكل منافسا اقتصاديا صاعدا بقوة مع الفارق في موازين القوة. فقد ورد ذكرها في الخطة الاستراتيجية أكثر من عشرين مرة، فما يتعلق بالتنافس الاقتصادي والأضرار التي سببتها للولايات المتحدة بفتح أسواقها، والتي تعتبرها من الأخطاء التي شجعت الاقتصاد الأمريكي على الاستثمار في الصين. وبينما ترغب استراتيجيتها في مساعدة أوروبا على استعادة هويتها الحضارية، تحاول في الوقت ذاته منع هيمنة الجماعات التي تصفها بالمعادية، من الوصول إلى السلطة في الشرق الأوسط ضمانا لتدفقات النفط. ولا يتخلف التقرير عما سبقه من رؤية كونية ذات صبغة أيديولوجية غير معروفة، دفع بها المحافظون الجدد في تسعينيات القرن الماضي، في ما عرف بمشروع القرن الأمريكي الجديد. مما حدا بالمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه «الهيمنة أم البقاء ـ السعي الأمريكي للسيطرة على العالم»، بأن الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية تنطوي على تهدِّيد وستجعل العالم منقسما وأكثر خطرا، وتكون أمريكا نفسها أقل مناً، وهي النظرة التي تشاركها نخبة من ساسة السياسة الخارجية. فمثلما تعاطف العالم معها عقب هجمات 11/9 انفتح الباب أيضا واسعاً لموجات من الكراهية، فحروبها التي شنت بدعاوى الضربات الوقائية؛ وليس الاستباقية أظهرتها قوة تعمل خارج مظلة القانون الدولي، لأن الحرب الوقائية تقع ضمن دائرة جرائم الحرب.
والشاهد أن صاحبت ظهور القوة الأمريكية في العقد الأخير للقرن العشرين، مقولات احتفائية تنظر لقوتها الصاعدة من خلال اصطلاحات جديدة، ولكنها لم ترقِ إلى مستوى الفرضيات قابلة التطبيق، فظلت حبيسة التصور الأيديولوجي لسطوة القوة الخشنة. فتصور مشروع القرن الأمريكي يعتبر أن أمريكا قادت الغرب إلى انتصار ساحق في فترة الحرب الباردة، وبقي عليها مواجهة أعداءها في الخارج، وهو ما لا تتماثل معاييره السياسية مع مبادئها في السياسة والديمقراطية. هذه الرؤى التعميمية أوغلت بعيداً إلى وصف المرحلة الأمريكية، بنهاية التاريخ ما يعني انتصار النموذج الغربي الليبرالي في السياسة واقتصاد السوق المفتوح.
خطة استراتيجية الأمن القومي تبدو إعلانا ضد الهجرة في بلد تكوّن في الأساس من المهاجرين، أكثر منه خططا سياسية داخلية وخارجية تعيد رسم سياساتها المهيمنة عالميا
يجدر القول إن انتصار النموذج الأمريكي ليس على مستوى القيم، التي تدعيها أو تبشر بها. فهو ترجمة حقيقية للتفوق العسكري واقتصاد هائل وتقدم تكنولوجي يحكم سيطرته على مجالات الفضاء وتقنية المعلومات. إلى جانب ذلك تستخدم هذه المقومات التي لم تتوافر من قبل لدولة ما في نشر ثقافتها الشعبية عبر سياق ثقافي عرفه البروفيسور جوزف ناي بالقوة الناعمة، تبدأ من مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، التي خرجت محطمة من الحرب العالمية الثانية، انتهاء بالثقافة بشقيها، ثقافة عالية بمستوى الجامعات والتعليم العالي، وأخرى شعبية يسعى العالم لتبني قيمها. ولكن كما يذهب ناي أيضا إلى أن هناك وجهاً آخر للقوة، وهو القوة الصلبة تمثلها القوة العسكرية البارزة، وكلاهما ترتبطان ببعضهما بعضا من حيث تأثيرهما على الآخرين. بعبارة واحدة سياسات التهديد. وبهذا تكون قوتها الناعمة لا تعبر عن أنساق فكرية، تقبل المشاركة والحوار الإنساني، بل يجب أن تفهم وفق سياق منظومتها العسكرية.
وكما هو متوقع فإن الخطة الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، بأهميتها للسياسات الأمريكية الخارجية، خاصة الصراع العربي الإسرائيلي وموقفها التقليدي المؤيد لإسرائيل؛ فإنها تشيد بإنجازات ترامب في المنطقة من إضعاف قوة إيران التي يصفها بالمزعزع الرئيسي في المنطقة النووية بالضربة الأمريكية، وتركيع حركة حماس في حرب السابع من أكتوبر. ويبدو أن مسألة الطاقة تأخذ حيزا واسعا من الخطط الاستراتيجية وأهميتها للاقتصاد الأمريكي إلا أن ذلك يتم من خلال العلاقات بين إسرائيل وجيرانها وفق المنظور الأمريكي. خطة الرئيس ترامب الاستراتيجية للأمن القومي تعبر عن رؤية تدفعها أوهام السياسة باستعادة الولايات المتحدة لمكانتها والتعبير نفسه يشير في حد ذاته إلى ثمة ما هو مفقود أو متوهم. فإذا كانت لا تزال الدولة الأكبر اقتصادا وقوة عسكرية ضاربة وتقدما تكنولوجيا رائدا في ظل منافسين تخشى من منافستهم، إلا أن ذلك يدفع بالكثير من الأسئلة التي تثار حول قدرة الولايات المتحدة في الصمود في موقعها «المتفوق». فالدور الامبراطوري الذي تحاول الولايات لعبه، يصعد ثم ينحدر تاريخيا بفعل التوسع، أو الإرهاق الذي تفرضه مسؤولياتها على الصعيد العالمي، وعلى ما فصلت فيه خطة استراتيجية الأمن القومي إلا أنها تبدو إعلانا ضد الهجرة في بلد تكون في الأساس من المهاجرين، أكثر منه خططا سياسية داخلية وخارجية تعيد رسم سياساتها المهيمنة عالميا.
وتعيد الاستراتيجية الخطاب الأمريكي حول الروابط التاريخية بينها وبين أوروبا ومصير مستقبل حلف الناتو الذي ستصبح عضويتها من دول خارج القارة الأوروبية. المشكلة أن الاستراتيجية حاولت تحويل الأرقام إلى عقيدة متصورة عن الولايات المتحدة ودورها في العالم بما يتجاوز واقعية السياسة والاقتصاد، تشكل هوس الإدارة الأمريكية حول رؤيتها للعالم بقيادة رئيس عادة ما يتجاوز حدود المعقول. ثم إن المدى الزمني المتبقي لإدارة ترامب قد لا يؤهلها لتطبيق ما ورد في خطة الاستراتيجية طويلة المدى، كما تبدو في تغطيتها لقارات العالم، ولو إنها تعبر جوهريا عن السياسات الأمريكية التقليدية الموروثة. ولكن الأخطر أن يتم التنفيذ على طريقة الإدارة الحالية بتصرفاتها الدراماتيكية التي تتخطي المؤسسية في شخص رئيسها. فالخلط بين أوهام القوة أو تلك التي تتصور الدول بحسب موقعها في النظام العالمي والحضاري يمنحها تميزا قد يكون مدخلا إلى سياسات تقويض وجودها بسبب تلك السياسات نفسها.
كاتب سوداني
وما تحمله الرؤية الاستراتيجية الجديدة، ليست جديدة في سياسات الولايات المتحدة الخارجية ورؤيتها وتقييمها للمهددات الأمنية، من عدة دول، في عالم تهمين هي على نظامه العالمي. وتريد الولايات المتحدة، كما تشير الاستراتيجية، أن تحتفظ بموقعها كقوة عظمى غير منازعة، وهو المبدأ الذي ساد بعد سقوط خصمها في الحرب الباردة الاتحاد السوفييتي، إيذانا كما عبر مفكروها بنهاية التاريخ، كما لدى فرانسيس فوكوياما وصدام الحضارات لدى صموئيل هنتنغتون من أكثر من ثلاث عقود مضت في أكبر احتفال أيديولوجي. ولكن بدأت سياسات ترامب الشعبوية وما يتعلق بالهجرة تتضح أكثر من أي استراتيجية سابقة بما سماه بانتهاء عصر الهجرة الكبير.
ولأن الأمن مصدر قلق السياسة الأمريكية، رغم موقعها الجغرافي، الذي جعلها بعيدة عن إي غزو، إلا أن فهمها للأمن القومي هو أن يكون بعيدا عن شطآنها دائما.. عبر هذا المنظور بُرّرت حروبها الوقائية، وفق تصنيف للدولة، التي تشكل محورا للشر أو المارقة. فتعرض هذه الفرضية الاستراتيجية إلى اختبار دقيق، ولم تحسم أي نزاع اشتركت فيه في البلدان التي قامت بغزوها إلا بمزيد من الخسائر مع تصاعد فاتورة الحروب. وطال أمد استراتيجية حربها على الإرهاب، وأصبحت أمة كما يرى الكاتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، قد وضعت حول نفسها مزيدا من العوازل أكثر من ذي قبل، وبذا انفصلت شعوريا عن عدد من حلفائها، وتحولت في السياق ذاته من مصدر للأمل إلى بلد يصدر مخاوفه إلى الخارج. يضاف إلى ذلك تعقيداتها الداخلية وتفاقمها كمشكلات، الضمان الاجتماعي والصحي، والهجرة والحاجة المتزايدة إلى الطاقة وقضايا الأمن الداخلي.
فما هذه الاستراتيجية التي توصف بالصلبة والواقعية، التي تفسر الارتباط الجوهري بين الغايات والوسائل، وبالتالي ما هي طبيعة المهددات التي يشير إليها التقرير، ويصنفها في الهجوم العسكري والمخدرات والاتجار في البشر وغيرها مما تتصوره من تهديد مباشر لحياة الأمريكيين. إن ما تريده الولايات المتحدة، حسب الخطة الاستراتيجية، يدخل في الخطابة البلاغية السياسية أكثر من الوقائع الاستراتيجية، فما تريده داخليا من تقوية الاقتصاد والاستغلال الأقصى للموارد لتأمين الأمة الأمريكية، والمفارقة أن استراتيجية ترامب تعدد وصفها بين سياسة خارجية براغماتية مرنة، دون أن تكون براغماتية وواقعية، ودون أن تكون واقعية وما تريده من العالم، وفق ترسيم سياساتها الخارجية، ومحيط تركيزها في النصف الغربي للكرة الأرضية استمرارا لمبدأ مونرو 1823 كما تقارنه الاستراتيجية.
إذا كانت الاستراتيجية في جانبها الاقتصادي تركز على استعادة أمريكا لقوتها في كل المجالات، إلا أن الصين لا تزال تشكل منافسا اقتصاديا صاعدا بقوة مع الفارق في موازين القوة. فقد ورد ذكرها في الخطة الاستراتيجية أكثر من عشرين مرة، فما يتعلق بالتنافس الاقتصادي والأضرار التي سببتها للولايات المتحدة بفتح أسواقها، والتي تعتبرها من الأخطاء التي شجعت الاقتصاد الأمريكي على الاستثمار في الصين. وبينما ترغب استراتيجيتها في مساعدة أوروبا على استعادة هويتها الحضارية، تحاول في الوقت ذاته منع هيمنة الجماعات التي تصفها بالمعادية، من الوصول إلى السلطة في الشرق الأوسط ضمانا لتدفقات النفط. ولا يتخلف التقرير عما سبقه من رؤية كونية ذات صبغة أيديولوجية غير معروفة، دفع بها المحافظون الجدد في تسعينيات القرن الماضي، في ما عرف بمشروع القرن الأمريكي الجديد. مما حدا بالمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه «الهيمنة أم البقاء ـ السعي الأمريكي للسيطرة على العالم»، بأن الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية تنطوي على تهدِّيد وستجعل العالم منقسما وأكثر خطرا، وتكون أمريكا نفسها أقل مناً، وهي النظرة التي تشاركها نخبة من ساسة السياسة الخارجية. فمثلما تعاطف العالم معها عقب هجمات 11/9 انفتح الباب أيضا واسعاً لموجات من الكراهية، فحروبها التي شنت بدعاوى الضربات الوقائية؛ وليس الاستباقية أظهرتها قوة تعمل خارج مظلة القانون الدولي، لأن الحرب الوقائية تقع ضمن دائرة جرائم الحرب.
والشاهد أن صاحبت ظهور القوة الأمريكية في العقد الأخير للقرن العشرين، مقولات احتفائية تنظر لقوتها الصاعدة من خلال اصطلاحات جديدة، ولكنها لم ترقِ إلى مستوى الفرضيات قابلة التطبيق، فظلت حبيسة التصور الأيديولوجي لسطوة القوة الخشنة. فتصور مشروع القرن الأمريكي يعتبر أن أمريكا قادت الغرب إلى انتصار ساحق في فترة الحرب الباردة، وبقي عليها مواجهة أعداءها في الخارج، وهو ما لا تتماثل معاييره السياسية مع مبادئها في السياسة والديمقراطية. هذه الرؤى التعميمية أوغلت بعيداً إلى وصف المرحلة الأمريكية، بنهاية التاريخ ما يعني انتصار النموذج الغربي الليبرالي في السياسة واقتصاد السوق المفتوح.
خطة استراتيجية الأمن القومي تبدو إعلانا ضد الهجرة في بلد تكوّن في الأساس من المهاجرين، أكثر منه خططا سياسية داخلية وخارجية تعيد رسم سياساتها المهيمنة عالميا
يجدر القول إن انتصار النموذج الأمريكي ليس على مستوى القيم، التي تدعيها أو تبشر بها. فهو ترجمة حقيقية للتفوق العسكري واقتصاد هائل وتقدم تكنولوجي يحكم سيطرته على مجالات الفضاء وتقنية المعلومات. إلى جانب ذلك تستخدم هذه المقومات التي لم تتوافر من قبل لدولة ما في نشر ثقافتها الشعبية عبر سياق ثقافي عرفه البروفيسور جوزف ناي بالقوة الناعمة، تبدأ من مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، التي خرجت محطمة من الحرب العالمية الثانية، انتهاء بالثقافة بشقيها، ثقافة عالية بمستوى الجامعات والتعليم العالي، وأخرى شعبية يسعى العالم لتبني قيمها. ولكن كما يذهب ناي أيضا إلى أن هناك وجهاً آخر للقوة، وهو القوة الصلبة تمثلها القوة العسكرية البارزة، وكلاهما ترتبطان ببعضهما بعضا من حيث تأثيرهما على الآخرين. بعبارة واحدة سياسات التهديد. وبهذا تكون قوتها الناعمة لا تعبر عن أنساق فكرية، تقبل المشاركة والحوار الإنساني، بل يجب أن تفهم وفق سياق منظومتها العسكرية.
وكما هو متوقع فإن الخطة الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، بأهميتها للسياسات الأمريكية الخارجية، خاصة الصراع العربي الإسرائيلي وموقفها التقليدي المؤيد لإسرائيل؛ فإنها تشيد بإنجازات ترامب في المنطقة من إضعاف قوة إيران التي يصفها بالمزعزع الرئيسي في المنطقة النووية بالضربة الأمريكية، وتركيع حركة حماس في حرب السابع من أكتوبر. ويبدو أن مسألة الطاقة تأخذ حيزا واسعا من الخطط الاستراتيجية وأهميتها للاقتصاد الأمريكي إلا أن ذلك يتم من خلال العلاقات بين إسرائيل وجيرانها وفق المنظور الأمريكي. خطة الرئيس ترامب الاستراتيجية للأمن القومي تعبر عن رؤية تدفعها أوهام السياسة باستعادة الولايات المتحدة لمكانتها والتعبير نفسه يشير في حد ذاته إلى ثمة ما هو مفقود أو متوهم. فإذا كانت لا تزال الدولة الأكبر اقتصادا وقوة عسكرية ضاربة وتقدما تكنولوجيا رائدا في ظل منافسين تخشى من منافستهم، إلا أن ذلك يدفع بالكثير من الأسئلة التي تثار حول قدرة الولايات المتحدة في الصمود في موقعها «المتفوق». فالدور الامبراطوري الذي تحاول الولايات لعبه، يصعد ثم ينحدر تاريخيا بفعل التوسع، أو الإرهاق الذي تفرضه مسؤولياتها على الصعيد العالمي، وعلى ما فصلت فيه خطة استراتيجية الأمن القومي إلا أنها تبدو إعلانا ضد الهجرة في بلد تكون في الأساس من المهاجرين، أكثر منه خططا سياسية داخلية وخارجية تعيد رسم سياساتها المهيمنة عالميا.
وتعيد الاستراتيجية الخطاب الأمريكي حول الروابط التاريخية بينها وبين أوروبا ومصير مستقبل حلف الناتو الذي ستصبح عضويتها من دول خارج القارة الأوروبية. المشكلة أن الاستراتيجية حاولت تحويل الأرقام إلى عقيدة متصورة عن الولايات المتحدة ودورها في العالم بما يتجاوز واقعية السياسة والاقتصاد، تشكل هوس الإدارة الأمريكية حول رؤيتها للعالم بقيادة رئيس عادة ما يتجاوز حدود المعقول. ثم إن المدى الزمني المتبقي لإدارة ترامب قد لا يؤهلها لتطبيق ما ورد في خطة الاستراتيجية طويلة المدى، كما تبدو في تغطيتها لقارات العالم، ولو إنها تعبر جوهريا عن السياسات الأمريكية التقليدية الموروثة. ولكن الأخطر أن يتم التنفيذ على طريقة الإدارة الحالية بتصرفاتها الدراماتيكية التي تتخطي المؤسسية في شخص رئيسها. فالخلط بين أوهام القوة أو تلك التي تتصور الدول بحسب موقعها في النظام العالمي والحضاري يمنحها تميزا قد يكون مدخلا إلى سياسات تقويض وجودها بسبب تلك السياسات نفسها.
كاتب سوداني
نيسان ـ نشر في 2025-12-20 الساعة 13:50
رأي: ناصر السيد النور


