اتصل بنا
 

ترامب ونتنياهو في محكمة جورج أورويل

نيسان ـ نشر في 2025-12-20 الساعة 13:52

نيسان ـ منذ أن سلّط جورج أورويل نقده اللّيزري المضيء على العلاقة بين اللغة والسياسة، لم يعد للإنسانية عذرٌ في الغفلة عن حقيقة أن ابتذال اللغة هو سلاح الطغاة بجميع أنواعهم، بدءًا من المتسلط الساذج وتدرّجا ً إلى الدكتاتور الداهية. وابتذال اللغة هو تعذيبها والتلاعب بها إلى حد تجريفها وتجويفها من المعنى، وذلك بتحويل كلماتها وعباراتها إلى نقائض لما كان مستقراً من معانيها ودلالاتها. وقد بيّن هذه الحقيقة في روايته الشهيرة «1984»، إحدى أعظم روايات الديستوبيا (نقيض اليوتوبيا) السياسية في القرن العشرين.
وقد انتشرت الرواية انتشاراً واسعاً حتى تغلغلت في الثقافة الجماهيرية الغربية فخلّدت عدداً من عباراتها اللافتة، مثل «الأخ الأكبر» و»الحجرة 101». أما أشهر أمثلة استيلاء السلطة على اللغة لمنع التفكير المستقل وللتحكم في الأذهان وجعلها تأخذ المتناقضات مأخذ الحقائق، فهي شعارات «الحرب سلام» و»الحرية عبودية» و»الجهل قوة». الحرب سلام بمعنى أن الحروب المستمرة توحّد المواطنين وتوجّه غضبهم إلى الخارج (العدو الوهمي) بما يضمن التمسمر في كرسي الحكم (نتنياهو نموذجاً). والحرية عبودية بمعنى أن إخضاع الإنسان للسلطة وتسخير ضميره لمصلحتها إنما يمنحه نعمة «الحرية من الاختيار»، أي التحرر من تحديات المسؤولية الفردية والتخفّف من عبء استقلالية القرار (عشرات الملايين من أتباع حركة «ماغا» الأمريكية نموذجا: فقد أسلموا أمرهم لترامب «يفكر» نيابة عنهم ويقرر مصلحتهم كيفما شاء). أما الجهل قوة، فبمعنى أن الشعب غير العارف بالحقائق هو أسرع انخداعاً وأسهل انقياداً لكل ما تريده السلطة، حتى لو كان فساداً أثيماً وضلالاً بعيدا.
… أما الجهل قُوة، فبمعنى أن الشعب غير العارف بالحقائق هو أسرع انخداعاً وأسهل انقياداً لكل ما تريده السلطة، حتى لو كان فساداً أثيماً وضلالاً بعيدا.
ولعل أبرز مثال على وجاهة هذا الشعار (من منظور مصلحة النظام الحاكم والفئات المتنفذة) أن قرار البريكست، الذي فَرضت به النخبةُ السياسية والاجتماعية البريطانية موقفَها الانعزالي، القائم على أوهام إمكان استعادة أمجاد إمبراطورية غابرة بمزيد من التبعية الذليلة لبني العمومة الأمريكان، ما كان ليُبرَم لولا شدة جهل قطاعات واسعة من الرأي العام البريطاني بحقائق الجغرافيا الاقتصادية وبهشاشة وضع بلادهم. فالسبب الحقيقي لتقدم بريطانيا منذ أوائل الستينيات بطلب الانضمام إلى المجموعة الأوروبية (علما أن الجنرال ديغول ظل يرفض الطلب، ولم تتمكن بريطانيا من الانضمام إلا في أعقاب وفاته) هو وعي العقلاء من نخبتها بتخلفها عن الركب الأوروبي اقتصاديا وصناعيا. وهذه حقيقة تاريخية كان السياسي المخضرم كنّث كلارك من النزاهة بحيث اجتهد في التذكير بها قبل استفتاء البريكست عام 2016، ولكن نفوس البريطانيين كانت مصروفة عن معرفة الحقيقة بسبب غلبة الأهواء الانعزالية والأوهام الاستعلائية وحلاوة الأباطيل والأمانيّ التي كان يروجها أمثال الدجال بوريس جونسون. وهذا «الجهل العصري» هو مبعث العجز الشعبي عن فهم عقلانية قرار الدولة البريطانية، أوائل السبعينيات، الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، هذا التكتل المصلحي الفريد الذي نجح في إنجاز تجربة استثنائية لا سابق لها تاريخياً في مجال «السلام الدائم» (تحقيقاً للحلم الكانطي الشهير) و»الديمقراطية التعاونية» بين دولٍ كانت الحروب تمزقها من مطلع القرون الوسطى حتى عام 1945. ويكفي للدلالة على الأهمية التاريخية الاستثنائية لهذا التكتل، الذي حقق لمواطنيه أعلى درجات الحرية السياسية والحماية الاجتماعية، التذكير بأن الحربين العالميتين لم تكونا في واقع الأمر إلا حربين أهليتين أوروبيتين.
وليست رواية «1984» العمل الوحيد الذي نبّه فيه أورويل إلى قابلية اللغة للتجويف، بل إنه نبّه إليها أيضاً في مقاله النقدي «السياسة واللغة الإنكليزية»، حيث قال إن رداءة الاستخدام، أو فوضى التداول، قد أفرغت من معانيها كلمات كثيرة مثل: الديمقراطية، والاشتراكية، والحرية، والوطني، والواقعي، والعدل. من ذلك أن انعدام النزاهة يدفع بعض الناس إلى اعتماد حيلة خطرة، هي أن يستخدم هذه المفردات حسب تعريف شخصي من عنده، ولكنه يوهم سامعه بأنه يعني ما استقر عليه الاستخدام العام من معان لهذه المفردات. ومن الأمثلة التي يسوقها أورويل: «الصحافة السوفييتية هي الأعلى حرية في العالم» (أي نعم! كان هناك من الشيوعيين عندنا من يزعم ذلك!)، و»الكنيسة الكاثوليكية تعارض الاضطهاد».
وليس الزعم الأخير مجرد جوهرة من فرائد الأرشيف، بل إني شاهدت الفيلسوف جان-لوك ماريون يزعم قبل أيام، بمناسبة الذكرى الـ 120 لسن قانون العَلمانية الفرنسي، أن الكنيسة الكاثوليكية هي عامل السلام المانع لوقوع الحروب! إذن فمن الذي نصّب محاكم التفتيش الرهيبة؟ ومن الذي أطلق علينا الحروب الصليبية التي كان من مفاخرها الكثيرة غلي جثث المسلمين في القدور وأكل لحوم الأطفال بعد شويهم في الأسياخ مثل الخرفان؟!
كاتب تونسي

نيسان ـ نشر في 2025-12-20 الساعة 13:52


رأي: مالك التريكي

الكلمات الأكثر بحثاً