الخط الأصفر
نيسان ـ نشر في 2025-12-21 الساعة 10:53
نيسان ـ حدود إسرائيل هي حيث تقف جيوشها- موشيه دايان.
بعد انقضاء شهرين على إعلان وقف إطلاق النار، الذي ظل حبرًا على ورق دون تطبيق فعلي ميداني، كان من المفترض أن تشهد المنطقة انتقالًا جوهريًّا نحو المرحلة الثانية: التحول من استراتيجية التدمير إلى آلية الانسحاب، ومن منطق العمليات العسكرية إلى إطار الإدارة الدولية، تمهيدًا لمسار سياسي يُفضي في نهاية المطاف إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. إلا أن المعطيات الميدانية خلال هذه الفترة أثبتت أن هذا المسار لم يتجاوز كونه افتراضًا نظريًّا سرعان ما تحطم أمام واقع مناقض تمامًا لما كان متوقعًا.
فبعد مرور شهرين على الإعلان عن وقف إطلاق النار المزعوم، تُكشفت حقيقة مغايرة تمامًا؛ إذ يواصل الكيان الصهيوني ممارسات التطهير العرقي في قطاع غزة. فالسكان الفلسطينيون يلقون حتفهم جرّاء البرد القارِس مثلما سقطوا سابقًا تحت وطأة القصف، في الوقت الذي تُتخذ فيه قرارات منفردة من جانب واحد تُعمّق هوة انعدام الثقة بين الأطراف التي يُفترض أن تكون شريكة في إنهاء هذه المأساة الإنسانية وتنفيذ ما يُعرف بخطة الرئيس ترامب، الذي يزعم أنه أنهى حربًا ممتدة منذ ثلاثة آلاف عام.
ما كان من المفترض أن يمثل خط انسحاب مؤقتًا للجيش الصهيوني تحوّل، بحسب تصريحات جنرالاته، إلى حدود فعلية جديدة تحمل اسم «الخط الأصفر»، تبتلع ما يقارب نصف مساحة قطاع غزة. ففي مطلع الشهر الجاري، خاطب رئيس أركان الجيش قواته مؤكدًا أن إسرائيل «تمارس اليوم سيطرة فعلية على مساحات شاسعة من القطاع»، وأن وحداته العسكرية «ستحافظ على تمركزها على هذه الخطوط الدفاعية». ولم يكتفِ بذلك، بل أعلن صراحةً أن «الخط الأصفر يمثل حدودًا جديدة، ويشكل خط دفاع متقدمًا لحماية المجتمع الإسرائيلي، وإطارًا للنشاط العملياتي المستمر». بهذه التصريحات، لم يعد خط وقف إطلاق النار إجراءً انتقاليًّا مؤقتًا، بل تحول بموجب الأمر الواقع إلى حدود مفروضة قسرًا، ومنطقة دفاعية دائمة، وإطار قانوني يضفي شرعية على وجود عسكري إسرائيلي طويل المدى داخل أراضٍ ظلت حتى وقت قريب جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية.
لم تقتصر هذه التصريحات على كونها مجرد خطاب سياسي؛ فالخط الأصفر يتجسد ميدانيًا في كتل خرسانية ضخمة مطلية باللون الأصفر تشطر قطاع غزة بعمق يتفاوت ما بين 1.5 إلى 6.5 كيلومتر. قبل اندلاع الأحداث الأخيرة، كان القطاع يمتد على طول يبلغ حوالي 41 كيلومترًا، بعرض يتراوح ما بين 6 إلى 12 كيلومترًا. أما في الوقت الراهن، فقد أحكم الكيان قبضته على ما يقارب نصف هذه المساحة في منطقة تُعد من بين أكثر بقاع العالم ازدحامًا بالسكان، مما أدى إلى مضاعفة حدة الاكتظاظ السكاني، وتقليص المساحات القابلة للاستخدام بشكل جذري، وتدمير القطاع الزراعي وتمزيق أوصاله، الأمر الذي فاقم من حدة الكارثة الإنسانية، وكرّس واقع النزوح القسري الجماعي، وعمّق حجم الدمار، وساهم في انهيار البنية المؤسسية بشكل كامل.
لا يمكن عزل تصريحات رئيس أركان الجيش عن السياق الأوسع لتصريحات مجرم الحرب نتن ياهو، الذي أعلن من شمال فلسطين المحتلة عن توسيع حدوده الشمالية والشمالية الشرقية من خلال إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد من العاصمة السورية دمشق وصولًا إلى مرتفعات الجولان المحتلة، بالتزامن مع تقدم قواته العسكرية إلى المنطقة الفاصلة الخاضعة لإشراف الأمم المتحدة واحتلال الجانب السوري من جبل الشيخ (حرمون). وبحسب مصادر وتقارير متعددة وموثوقة، تجري حاليًا عمليات تنفيذ فعلية لسياسة إنشاء «منطقة عازلة» داخل الأراضي اللبنانية الجنوبية، من خلال تدمير القرى الحدودية أو إبقائها مُفرغة تمامًا من سكانها، مع نشر تعزيزات عسكرية إسرائيلية في نقاط استراتيجية حدودية، في محاولة لفرض واقع أمني وجيوسياسي جديد بالقوة العسكرية.
وفقًا للخطة التي طرحها ترامب، كان من المقرر البدء في تنفيذ المرحلة الثانية بعد أن أوفت حركة حماس بالتزامها بالإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين سواء أحياء أو جثامين، وبعد أن أعلن نتن ياهو استعداده للانتقال إلى هذه المرحلة. إلا أن هذا الانتقال ارتبط بشرطين جوهريين: نشر قوات حفظ سلام دولية، ونزع سلاح حركة حماس بالكامل. وهنا تبرز تعقيدات المسألة؛ إذ يُبدي نتن ياهو تشككًا علنيًا في قدرة أي قوة دولية على إنجاز مهمة نزع السلاح، ويؤكد بشكل قاطع أن عملية نزع سلاح حماس ستتم عبر الوسائل العسكرية القسرية وتحت إشراف القوات الإسرائيلية مباشرة.
في المقابل، تتمسك حركة حماس برفض قاطع لنزع سلاحها إلا في إطار سياق شامل يتضمن تشكيل حكومة فلسطينية موحدة وانسحاب كامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي، مع إبدائها استعدادًا، كحد أدنى، لتخزين أسلحتها ضمن آلية متفق عليها في سياق عملية سياسية متكاملة، وفقًا لما أكده باسم نعيم -عضو المكتب السياسي للحركة- في تصريحاته الأخيرة.
خلاصة المشهد الراهن تكشف أن الكيان الصهيوني يتعامل مع الوضع القائم باعتباره فرصة استراتيجية لتوسيع حدوده الجغرافية، وممارسة أقصى أشكال الضغط على الشعب الفلسطيني، تمهيدًا لفتح مسار ما يُسمى بـ»الترحيل الطوعي» تحت ذريعة إنسانية هو نفسه من أوجد ظروفها ودواعيها. وفي الوقت نفسه، يعمل بشكل مقصود ومنهجي على إعاقة الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، من خلال مواصلة سياسات الاحتلال والقتل والتدمير تحت ستار اتفاق وقف إطلاق النار. يبدو جليًّا أن هذا الترتيب يحقق مصالحه الاستراتيجية، ويتقاطع مع المصالح الغربية الأوسع، لتكون المحصلة النهائية إجهاض أي فرصة لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، والإبقاء على قطاع غزة -كما كان دائمًا- بؤرة محاصَرة، يستغلها الكيان لتحقيق أجندته السياسية وتعزيز التماسك الداخلي لجبهته، وتحويلها إلى مختبر ميداني تُختبر فيه مختلف الأسلحة العسكرية والأدوات البيولوجية والتقنيات التكنولوجية المتطورة، ولكن مع تقليص العدد السكاني، بما يسمح له بمواصلة ما يُعرف استراتيجيًّا بـ»إدارة الصراع» على المدى الطويل.
بعد انقضاء شهرين على إعلان وقف إطلاق النار، الذي ظل حبرًا على ورق دون تطبيق فعلي ميداني، كان من المفترض أن تشهد المنطقة انتقالًا جوهريًّا نحو المرحلة الثانية: التحول من استراتيجية التدمير إلى آلية الانسحاب، ومن منطق العمليات العسكرية إلى إطار الإدارة الدولية، تمهيدًا لمسار سياسي يُفضي في نهاية المطاف إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. إلا أن المعطيات الميدانية خلال هذه الفترة أثبتت أن هذا المسار لم يتجاوز كونه افتراضًا نظريًّا سرعان ما تحطم أمام واقع مناقض تمامًا لما كان متوقعًا.
فبعد مرور شهرين على الإعلان عن وقف إطلاق النار المزعوم، تُكشفت حقيقة مغايرة تمامًا؛ إذ يواصل الكيان الصهيوني ممارسات التطهير العرقي في قطاع غزة. فالسكان الفلسطينيون يلقون حتفهم جرّاء البرد القارِس مثلما سقطوا سابقًا تحت وطأة القصف، في الوقت الذي تُتخذ فيه قرارات منفردة من جانب واحد تُعمّق هوة انعدام الثقة بين الأطراف التي يُفترض أن تكون شريكة في إنهاء هذه المأساة الإنسانية وتنفيذ ما يُعرف بخطة الرئيس ترامب، الذي يزعم أنه أنهى حربًا ممتدة منذ ثلاثة آلاف عام.
ما كان من المفترض أن يمثل خط انسحاب مؤقتًا للجيش الصهيوني تحوّل، بحسب تصريحات جنرالاته، إلى حدود فعلية جديدة تحمل اسم «الخط الأصفر»، تبتلع ما يقارب نصف مساحة قطاع غزة. ففي مطلع الشهر الجاري، خاطب رئيس أركان الجيش قواته مؤكدًا أن إسرائيل «تمارس اليوم سيطرة فعلية على مساحات شاسعة من القطاع»، وأن وحداته العسكرية «ستحافظ على تمركزها على هذه الخطوط الدفاعية». ولم يكتفِ بذلك، بل أعلن صراحةً أن «الخط الأصفر يمثل حدودًا جديدة، ويشكل خط دفاع متقدمًا لحماية المجتمع الإسرائيلي، وإطارًا للنشاط العملياتي المستمر». بهذه التصريحات، لم يعد خط وقف إطلاق النار إجراءً انتقاليًّا مؤقتًا، بل تحول بموجب الأمر الواقع إلى حدود مفروضة قسرًا، ومنطقة دفاعية دائمة، وإطار قانوني يضفي شرعية على وجود عسكري إسرائيلي طويل المدى داخل أراضٍ ظلت حتى وقت قريب جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية.
لم تقتصر هذه التصريحات على كونها مجرد خطاب سياسي؛ فالخط الأصفر يتجسد ميدانيًا في كتل خرسانية ضخمة مطلية باللون الأصفر تشطر قطاع غزة بعمق يتفاوت ما بين 1.5 إلى 6.5 كيلومتر. قبل اندلاع الأحداث الأخيرة، كان القطاع يمتد على طول يبلغ حوالي 41 كيلومترًا، بعرض يتراوح ما بين 6 إلى 12 كيلومترًا. أما في الوقت الراهن، فقد أحكم الكيان قبضته على ما يقارب نصف هذه المساحة في منطقة تُعد من بين أكثر بقاع العالم ازدحامًا بالسكان، مما أدى إلى مضاعفة حدة الاكتظاظ السكاني، وتقليص المساحات القابلة للاستخدام بشكل جذري، وتدمير القطاع الزراعي وتمزيق أوصاله، الأمر الذي فاقم من حدة الكارثة الإنسانية، وكرّس واقع النزوح القسري الجماعي، وعمّق حجم الدمار، وساهم في انهيار البنية المؤسسية بشكل كامل.
لا يمكن عزل تصريحات رئيس أركان الجيش عن السياق الأوسع لتصريحات مجرم الحرب نتن ياهو، الذي أعلن من شمال فلسطين المحتلة عن توسيع حدوده الشمالية والشمالية الشرقية من خلال إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد من العاصمة السورية دمشق وصولًا إلى مرتفعات الجولان المحتلة، بالتزامن مع تقدم قواته العسكرية إلى المنطقة الفاصلة الخاضعة لإشراف الأمم المتحدة واحتلال الجانب السوري من جبل الشيخ (حرمون). وبحسب مصادر وتقارير متعددة وموثوقة، تجري حاليًا عمليات تنفيذ فعلية لسياسة إنشاء «منطقة عازلة» داخل الأراضي اللبنانية الجنوبية، من خلال تدمير القرى الحدودية أو إبقائها مُفرغة تمامًا من سكانها، مع نشر تعزيزات عسكرية إسرائيلية في نقاط استراتيجية حدودية، في محاولة لفرض واقع أمني وجيوسياسي جديد بالقوة العسكرية.
وفقًا للخطة التي طرحها ترامب، كان من المقرر البدء في تنفيذ المرحلة الثانية بعد أن أوفت حركة حماس بالتزامها بالإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين سواء أحياء أو جثامين، وبعد أن أعلن نتن ياهو استعداده للانتقال إلى هذه المرحلة. إلا أن هذا الانتقال ارتبط بشرطين جوهريين: نشر قوات حفظ سلام دولية، ونزع سلاح حركة حماس بالكامل. وهنا تبرز تعقيدات المسألة؛ إذ يُبدي نتن ياهو تشككًا علنيًا في قدرة أي قوة دولية على إنجاز مهمة نزع السلاح، ويؤكد بشكل قاطع أن عملية نزع سلاح حماس ستتم عبر الوسائل العسكرية القسرية وتحت إشراف القوات الإسرائيلية مباشرة.
في المقابل، تتمسك حركة حماس برفض قاطع لنزع سلاحها إلا في إطار سياق شامل يتضمن تشكيل حكومة فلسطينية موحدة وانسحاب كامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي، مع إبدائها استعدادًا، كحد أدنى، لتخزين أسلحتها ضمن آلية متفق عليها في سياق عملية سياسية متكاملة، وفقًا لما أكده باسم نعيم -عضو المكتب السياسي للحركة- في تصريحاته الأخيرة.
خلاصة المشهد الراهن تكشف أن الكيان الصهيوني يتعامل مع الوضع القائم باعتباره فرصة استراتيجية لتوسيع حدوده الجغرافية، وممارسة أقصى أشكال الضغط على الشعب الفلسطيني، تمهيدًا لفتح مسار ما يُسمى بـ»الترحيل الطوعي» تحت ذريعة إنسانية هو نفسه من أوجد ظروفها ودواعيها. وفي الوقت نفسه، يعمل بشكل مقصود ومنهجي على إعاقة الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، من خلال مواصلة سياسات الاحتلال والقتل والتدمير تحت ستار اتفاق وقف إطلاق النار. يبدو جليًّا أن هذا الترتيب يحقق مصالحه الاستراتيجية، ويتقاطع مع المصالح الغربية الأوسع، لتكون المحصلة النهائية إجهاض أي فرصة لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، والإبقاء على قطاع غزة -كما كان دائمًا- بؤرة محاصَرة، يستغلها الكيان لتحقيق أجندته السياسية وتعزيز التماسك الداخلي لجبهته، وتحويلها إلى مختبر ميداني تُختبر فيه مختلف الأسلحة العسكرية والأدوات البيولوجية والتقنيات التكنولوجية المتطورة، ولكن مع تقليص العدد السكاني، بما يسمح له بمواصلة ما يُعرف استراتيجيًّا بـ»إدارة الصراع» على المدى الطويل.
نيسان ـ نشر في 2025-12-21 الساعة 10:53
رأي: اسماعيل الشريف


