كيف ابتلعتنا القبيلة الرقمية
رمزي الغزوي
رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي
نيسان ـ نشر في 2025-12-22 الساعة 11:37
نيسان ـ ما نعيشه على مواقع التواصل الاجتماعي ليس تواصلا، بل انكشافا جماعيا. انكشاف هش، فاضح، لا يبحث عن حقيقة بقدر ما يبحث عن اعتراف بأننا هنا لم نتبخر بعد، وبأن صوتنا ـ مهما كان مرتجفا أو مكسورا ـ ما زال قادرا على الارتطام بشاشة أخرى. قبيلة مواقع التواصل وفيسبوك تحديدا لم تولد من رغبة في الاجتماع، بل من خوف عميق من العزلة.
هذه قبيلة بلا تاريخ، لكنها مهووسة بالذاكرة اللحظية. ما لا يحدث الآن لا قيمة له. وما لا يحصد تفاعلا كافيا كأنه لم يكن. هنا تقاس الأفكار بعدد الأيادي المرفوعة، لا بوزنها النوعية وجودتها. يكافأ السطحي التافه لأنه سهل الهضم فينتشر أكثر، ويعاقب العميق لأنه يتطلب جهدا فيطمر.
في قبيلة فيسبوك، لا نختلف لنفهم، بل لننتصر. وكأن الاختلاف رياضة دموية، لا حوارا. كل رأي يتحول إلى خندق، وكل جملة إلى سلاح. اللغة نفسها لم تعد وسيلة للتعبير، بل أداة اصطفاف. صارت الكلمات تلبس زيا عسكريا، وتفقد براءتها. حتى الصمت صار مريبا، كأنه تواطؤ أو جبن أو خيانة.
الأخطر من كل هذا ليس الضجيج، بل وهم القوة. يشعر الفرد داخل تلك القبيلة أنه كبير، مؤثر، مرئي. لكنه في الحقيقة أكثر قابلية للذوبان أو التلاشي بمعنى أدق. القبيلة تحميه من السؤال صحيح، لكنها في المقابل تسلبه فرديته. تعفيه من التفكير على أن تملي عليه ما يغضب له، وما يفرح به، وما يجب أن يكرهه اليوم.
الخوارزمية هنا عقل قبلي بارد. تعرف مخاوفنا، وتغذيها وتنميه وتنشره. تعرف نزعاتنا، وتضخمها. لا تريدنا حكماء، بل منسجمين كما ينبغي. لا تريدنا مختلفين، بل قابلين للتوقع. وهكذا نعيد إنتاج أنفسنا، نسخة بعد نسخة، حتى نصبح تشابها مرهقا.
ومع ذلك، تبقى النجاة ممكنة. ليست في الانسحاب الكامل، ولا في التعالي الأخلاقي، بل في اليقظة. أن نكتب ونحن نعرف لماذا نكتب. أن نقرأ ونحن مستعدون لأن نهتز. أن نجرؤ على أن نكون أقل صخبا، وأكثر صدقا.
القبيلة الرقمية قوية، نعم. لكنها لا تحتمل الإنسان الحر. والحرية، هنا، تبدأ بسؤال واحد بسيط: هل ما أشاركه يشبهني حقا، أم يشبه تلك القبيلة التي أخاف أن أخسرها؟
هذه قبيلة بلا تاريخ، لكنها مهووسة بالذاكرة اللحظية. ما لا يحدث الآن لا قيمة له. وما لا يحصد تفاعلا كافيا كأنه لم يكن. هنا تقاس الأفكار بعدد الأيادي المرفوعة، لا بوزنها النوعية وجودتها. يكافأ السطحي التافه لأنه سهل الهضم فينتشر أكثر، ويعاقب العميق لأنه يتطلب جهدا فيطمر.
في قبيلة فيسبوك، لا نختلف لنفهم، بل لننتصر. وكأن الاختلاف رياضة دموية، لا حوارا. كل رأي يتحول إلى خندق، وكل جملة إلى سلاح. اللغة نفسها لم تعد وسيلة للتعبير، بل أداة اصطفاف. صارت الكلمات تلبس زيا عسكريا، وتفقد براءتها. حتى الصمت صار مريبا، كأنه تواطؤ أو جبن أو خيانة.
الأخطر من كل هذا ليس الضجيج، بل وهم القوة. يشعر الفرد داخل تلك القبيلة أنه كبير، مؤثر، مرئي. لكنه في الحقيقة أكثر قابلية للذوبان أو التلاشي بمعنى أدق. القبيلة تحميه من السؤال صحيح، لكنها في المقابل تسلبه فرديته. تعفيه من التفكير على أن تملي عليه ما يغضب له، وما يفرح به، وما يجب أن يكرهه اليوم.
الخوارزمية هنا عقل قبلي بارد. تعرف مخاوفنا، وتغذيها وتنميه وتنشره. تعرف نزعاتنا، وتضخمها. لا تريدنا حكماء، بل منسجمين كما ينبغي. لا تريدنا مختلفين، بل قابلين للتوقع. وهكذا نعيد إنتاج أنفسنا، نسخة بعد نسخة، حتى نصبح تشابها مرهقا.
ومع ذلك، تبقى النجاة ممكنة. ليست في الانسحاب الكامل، ولا في التعالي الأخلاقي، بل في اليقظة. أن نكتب ونحن نعرف لماذا نكتب. أن نقرأ ونحن مستعدون لأن نهتز. أن نجرؤ على أن نكون أقل صخبا، وأكثر صدقا.
القبيلة الرقمية قوية، نعم. لكنها لا تحتمل الإنسان الحر. والحرية، هنا، تبدأ بسؤال واحد بسيط: هل ما أشاركه يشبهني حقا، أم يشبه تلك القبيلة التي أخاف أن أخسرها؟
نيسان ـ نشر في 2025-12-22 الساعة 11:37
رأي: رمزي الغزوي رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي


