اتصل بنا
 

المجرمون

نيسان ـ نشر في 2025-12-23 الساعة 14:14

نيسان ـ إسرائيل دولة استعمارية استيطانية، على غرار جنوب أفريقيا سابقًا- المؤرّخ اليهودي شلومو ساند.
يكفي التمعّن في بدايات المشروع الصهيوني لفهم جوهره الحقيقي؛ إذ يُروى أن دافيد بن غوريون، البولندي الملحد ومؤسس الكيان وأول رئيس وزراء له، قدّم للبريطانيين عرضًا غريبًا يقضي باستقبال مليون يتيم ألماني من العِرق الآري بدلًا من يهود أوروبا الشرقية، لإسكانهم في مستعمرته المقترحة. ورغم رفض البريطانيين لهذا العرض، فإنه يكشف بوضوح فاضح أن المشروع الصهيوني لم يُطرح يومًا بوصفه ملاذًا إنسانيًا لليهود، بل كمشروع استعماري أبيض في فلسطين.
وتدّعي السردية الدعائية الصهيونية أن اضطهاد اليهود في روسيا وشرق أوروبا كان الدافع لبدء هجرتهم إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، ثم جرى لاحقًا استثمار مأساة الهولوكوست والعزف على وترها العاطفي لتبرير إقامة دولة يهودية على حساب الشعب الفلسطيني.
ولم يكن هذا الادعاء ليستقيم إلا عبر تزوير التاريخ، وربط الوجود الصهيوني بأساطير تاريخية ودينية، وتصوير الاستيطان بوصفه «عودةً طبيعية» و«تحريرًا»، لا مشروعًا استعماريًا اقتلاعيًا كامل الأركان.
غير أن هذه السردية الرومانسية تتعمّد إغفال حقيقة أساسية، وهي أن المهاجرين المستوطنين لم يكونوا جميعًا ضحايا تمييز عنصري أو يهودًا فحسب، بل ضمّت موجاتهم مجرمين، ومتهرّبين من الديون، وفارّين من العدالة بتهم جنائية، وأشخاصًا سعوا للتخلّص من ماضيهم والبدء من جديد. وهذه الفئات لا تزال تجد طريقها إلى الكيان حتى اليوم. وقدّرت صحيفتا هآرتس و«الاتحاد» الإسرائيليتان أن أكثر من 25% من سكان «إسرائيل» هم أبناء هؤلاء المجرمين، أو مهاجرون يدّعون اليهودية، من مسيحيين متخفّين، وفارّين من الخدمة العسكرية من روسيا وأوكرانيا، ومجرمين هاربين، ومرتكبي جرائم جنسية.
ومنذ بدايات الصهيونية، جرى إنشاء ميليشيات إرهابية مسلّحة جنّدت كل من انتسب إليها بغضّ النظر عن خلفيته، ومنحته حصانة كاملة من أي مساءلة، فكانت النتيجة كيانًا عنيفًا إجراميًا خارجًا عن القانون، كما نشاهد بأمّ أعيننا.
وتكشف كتابات وخطابات مؤسسي الصهيونية عن نزعة عنصرية صارخة؛ ففي نصوص تيودور هرتزل وفلاديمير جابوتنسكي ومناحيم بيغن ودافيد بن غوريون، كما في منشورات منظمات إرهابية مثل الأرغون وليحي، يتجلّى ازدراء واضح لليهودية التقليدية الشرقية. فقد كان هؤلاء في غالبيتهم علمانيين أو ملحدين، وظّفوا اليهودية أداةً لخدمة مشروع استيطاني، واستثمروا الدين لاستقطاب المتدينين، إلى حدّ أن جابوتنسكي وصف الموروث الديني بالخرافات و«حماقات العجائز» التي ينبغي محوها.
وتشير تقارير وشهادات تاريخية عديدة إلى أن قيادات صهيونية لم تُبدِ اكتراثًا يُذكر بمصير اليهود الشرقيين في معسكرات النازية، فيما وُجّهت الأموال والموارد نحو استقدام الرجال البيض القادرين على القتال. بل تعدّى الأمر ذلك إلى تعاون مباشر مع النازيين لتسهيل الهجرة؛ وتُعدّ اتفاقية هافارا الدليل الأوضح، إذ أتاحت تدفّق العملة الصعبة إلى ألمانيا النازية وشراء منتجاتها لكسر المقاطعة البريطانية، مقابل تسهيل تهجير المستوطنين إلى فلسطين. وفي هذا السياق، زار جوزيف غوبلز فلسطين المحتلّة، وقدّم قلادة حملت على أحد وجهيها شعار النازية «النسر المعقوف»، وعلى الوجه الآخر نجمة داوود.
كما جرى، وفق شهادات تاريخية، تشكيل وحدات إرهابية تولّت تنفيذ عمليات هدفت إلى بثّ الرعب بين اليهود في الدول العربية ودفعهم قسرًا إلى الهجرة نحو الكيان. ويذكر المؤرّخ اليهودي العراقي نعيم جلادي أن الموساد عمل على تلميع صورة الكيان بوصفه «جنةً» منشودة، قبل أن يُقدم على تفجير كنيس لتحقيق هذا الغرض.
وليس هذا النهج استثناءً في تاريخ الاستعمار؛ فجميع المشاريع الاستعمارية الكبرى قامت على المجرمين. فقد نقلت بريطانيا السجناء إلى أستراليا منذ عام 1788 لتأسيس مستوطنات تحوّل نزلاؤها لاحقًا إلى نواة المجتمع الأوروبي هناك، واعتمدت فرنسا النهج نفسه بنفي آلاف المساجين إلى شمال أفريقيا ضمن ما سمّي استراتيجية «التكثير السكاني». وخلال الاستعمار الإسباني والبرتغالي في أمريكا الجنوبية، كان كثير من المهاجرين هاربين من العدالة، وشارك القراصنة مباشرة في حملات الإبادة ضد السكان الأصليين.
ويرتبط قانون الجنسية «الإسرائيلي» ارتباطًا عضويًا بما يُعرف بـقانون العودة الصادر عام 1950، والذي يُعدّ الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني؛ إذ صُمّم ليتيح الهجرة إلى فلسطين لكل من يعرّف نفسه بوصفه يهوديًا، أو تربطه صلة قرابة بيهودي، أو يكون متزوّجًا من يهودية، من دون إخضاعه لأي تدقيق أمني حقيقي، مع توفير حماية قانونية وأمنية تمنع ملاحقته جنائيًا.
وفي ضوء هذا السجلّ، يثبت سلوك هذه الدولة المجرِمة أن من يديرونها مجرمون بالفعل؛ فهي قادرة على فبركة الأحداث، وتزييف الحقائق، وارتكاب التطهير العرقي والمجازر، والاتجار بالسلاح بلا رادع. نحن، إذن، أمام دولة مجرِمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

نيسان ـ نشر في 2025-12-23 الساعة 14:14


رأي: اسماعيل الشريف

الكلمات الأكثر بحثاً