الانتفاضة الفلسطينية في عيونٍ غربية
د. مصطفى يوسف اللداوي
كاتب فلسطيني
نيسان ـ نشر في 2016-01-08 الساعة 18:47
لم ينتظر العالم ثلاثة أشهرٍ أو أكثر حتى يشكل وجهة نظرٍ عن الانتفاضة الفلسطينية، وحتى يكون له رأيٌ خاصٌ ومستقل، ورؤية أولية تتفق مع مبادئه وأفكاره، وتنسجم مع قيمه ومفاهيمه، وتنعكس على سياساته وقراراته، بعيداً عن التأثيرات الإعلامية والضغوط السياسية الإسرائيلية، واللوبي الصهيوني المنتشر في جميع أنحاء العالم، والمتغلغل في أنسجته المختلفة، والمتحكم في قراراته السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، الذي يريد من دول العالم المختلفة أن تري الأحداث بعيونٍ إسرائيلية، وأن تقدر الوقائع من وجهة نظر كيانهم، وأن تحكم على ما يجري بناءً على مصالحهم، وأن تغض الطرف عن كل ناقدٍ لهم، أو مستنكرٍ لسياساتهم، أو رافضٍ لممارساتهم، كما تطالبهم بألا يستجيبوا إلى الشكاوى الفلسطينية، وألا يصدقوا روايتهم، أو يصغوا إلى حكايتهم، وألا ينساقوا وراء دعاوى الظلم والاضطهاد التي يدعي الفلسطينيون أنهم يتعرضون لها.
لكن دول العالم المختلفة، الأوروبية الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأستراليا والصين ودول أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا وغيرهم، قد شكلت منذ الأيام الأولى للانتفاضة وجهة نظرتها الخاصة، وأكد عليها مسؤولوهم ووزراء خارجيتهم، وجاهروا بها وأعلنوا عنها في مختلف المحافل وعلى كل المنابر، وهي وإن تباينت واختلفت نسبياً، حسب درجة تأييد وانحياز بعضهم إلى الكيان الصهيوني، إلا أنها تكاد تكون متشابهة أو متقاربة، إلا في موقف الإدارة الأمريكية، التي تفردت بموقفها، التي تتفهم أوضاع الكيان الأمنية، وأنه يعيش ظروفاً قاهرة، ويتعرض إلى هجمةٍ إرهابية، تتطلب منه الحزم والشدة لضمان أمن مواطنيه وسلامة مصالحه.
أما بقية دول العالم المختلفة، بما فيها دول أوروبا الغربية وكندا وأستراليا، فإنهم قد أدانوا بشكلٍ أو بآخر، وبعباراتٍ واضحةٍ وليست غامضة، وصريحةٍ ومباشرة، الممارسات الإسرائيلية، وحملوها مسؤولية تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن سياستها الاستيطانية وتلك المتعلقة بمدينة القدس والمسجد الأقصى، وتعنتها في المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وتعطيلها لمساره بحججٍ مختلفة، هي التي كانت سبباً في اندلاع الانتفاضة، وانفجار الأحداث دفعةً واحدةً في كل المناطق الفلسطينية، وهي التي خلقت حالة اليأس والإحباط العامة لدى الشعب الفلسطيني.
أجمعت دولٌ كثيرةٌ على نقاء الانتفاضة، ووصفوها بأنها نقية وصافية، ولا تتخللها مصالح غير فلسطينية، أو منافع فئوية وحزبية، بل هي انعكاسٌ صادق لحاجة المواطنين ورغبتهم، وإحساسهم بالظلم الواقع عليهم، ورفضهم الخضوع للسياسات الإسرائيلية، ورأوا أنها مستقلة وغير تابعة، فلا تخضع لإرادة خارجية، ولا تسيرها قوةٌ أجنبية، ولا تتبع في قرارتها لتنظيماتٍ أو هيئاتٍ، حتى أن الأحزاب والتنظيماتٍ غير قادرة على الوصول إليها والسيطرة عليها، أو التسلل إلى هرمها القيادي الذي تحاول خلقه وتشكيله ليكون لها وخاصاً بها دون غيرها، لهذا فهي انتفاضة أفرادٍ مستقلين، قل منهم من ينتمي إلى تنظيمٍ يحركه ويوجهه، أو يتبناه وينسبه.
وأنها انتفاضةٌ شابةٌ، أغلب عناصرها الذين يندفعون وينفذون عمليات طعنٍ ودهسٍ، والذين ينخرطون في المظاهرات وينتظمون في المسيرات، والذين يشكلون أغلب الشهداء، هم من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 25 سنة، وكثيرٌ منهم يصنفون أطفالاً، ممن تقل أعمارهم عن ستة عشر عاماً، مع حضورٍ لافتٍ للفتيات اللواتي يشاركن الشباب الذكور في مختلف الفعاليات، ويقمن بما يقومون به، فيطعن ويهاجمن ويقتلن، إذ أن نسبة عدد الفتيات الشهيدات تصل إلى 12% من عدد الشهداء، وهي نسبة قابلة للزيادة كل يوم.
وهي انتفاضة المتعلمين والمتميزين، إذ أن أغلب الشهداء هم من طلاب الجامعات أو تلاميذ المدارس، وهم طلابٌ نابهون أذكياء، ومتميزون نشطاء، لا يدفهم الفشل إلى الانخراط في المشاركة، وتقليد غيرهم في أعمالهم كالطعن والدهس، بل إنهم في فصولهم الدراسية متميزون ومتقدمون، بشهادة زملائهم وأساتذتهم، الذين يشهدون وعلاماتهم الدراسية بأنهم متفوقون في الدراسة.
ويزيدون في وصف جيل الانتفاضة الثالثة بأنه جيلٌ ذكيٌ وواعي، فلا تخدعه المظاهر، ولا يؤمن بالسراب، ولا يجري وراء التصريحات الجوفاء، وإنما يفكر ويقدر، ويدرس ويقرر، كما أنه يحسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويتفاعل معها، ويستفيد منها، وهم يعيشون حياةً أسرية هانئة وسعيدة، وتربطهم بالآخرين علاقاتٌ اجتماعية جيدة، فلا يعانون من اضطراباتٍ نفسية وعقدٍ اجتماعية.
ويصف كتابٌ وصحفيون أجانب يعملون في الأرض المحتلة ويغطون ما يجري فيها، الانتفاضة بأنها فجائية ولحظوية، أي أن المنفذين يقررون فجأة تنفيذ عملياتهم، ويعزمون في لحظتهم على مهاجمة عدوهم، دون إعدادٍ مسبق، أو تحضيرٍ سابق، وبدون رصدٍ ومتابعة وتحديد الهدف وساعة التنفيذ وخطة العمل والانسحاب بعد التنفيذ، بل إن بعضهم يقرر الهجوم أثناء ذهابه إلى المدرسة أو عودته منها، ويشهد على ذلك أهلوهم الذين يؤكدون أنهم لم يلاحظوا عليهم شيئاً قبل تنفيذهم للعملية، إذ لا يبدو عليهم الاكتئاب أو الانعزال، ولا يميل بعضهم للجلوس مع عائلاتهم والتودد إليهم بقصد وداعهم والسلام عليهم، الأمر الذي يؤكد فجائية القرار.
ويضيفون بأنها انتفاضة الأداة الحديدية الحادة، فلا سلاح غير السكين يحمله الفلسطينيون إلى جانب الدهس، إلا أن سلاح السكين متوفرٌ للجميع، فهو أداة المطبخ التي لا تثير شبهةً، أما الدهس فهو الوسيلة الأقل استخداماً لأنها غير متاحة للجميع، إذ لا يتنقل بسيارته الخاصة على الطرق العامة المتاخمة للمستوطنات والمتقاطعة مع الشوارع الإسرائيلية إلا عددٌ قليلٌ من الفلسطينيين، الذين يحصلون على تصاريح خاصة تمكنهم من عبور الحواجز والبوابات العسكرية الإسرائيلية.
هذا الوصف الدقيق للانتفاضة ليس وصفاً فلسطينياً، ولا هو تقرير محللٍ عربي، إنما هي آراء رسمها وكونها إعلاميون ومراسلون لوسائل إعلامٍ محليةٍ خاصة ببلدانهم، ينتشرون في كل مكان، ويتوزعون على مختلف البلدات، ولهم مكاتب ومراكز، وعندهم عاملون وموظفون، ومصورون وصحفيون، يغطون الأحداث، ويتابعون الفعاليات، ويكتبون التقارير، وينقلون وجهات نظرهم الشخصية وتقديرهم الخاص لما يجري في الأرض المحتلة من أحداث، هذا بالإضافة إلى عولمة الإعلام الذي يشترك في تغطية الأحداث، ويعجل في نقلها وانتشارها، وهو ما يفقد الإسرائيليين زمام التحكم في رسم الصورة وبيان الموقف ونشر الخبر وتعميم الأحداث، ويحرمهم من عاداتهم الأصيلة الموروثة في الكذب والغش والخداع.