اتصل بنا
 

المُحَشِّشون

نيسان ـ نشر في 2016-01-15

المحششون
نيسان ـ

بقلم نوح كرايمة

في يوم الخميس، بعدَ الظهر بقليل، بحدود الساعة الواحدة مساءً، اتصلَ عبود بصديقيه، جمال ومعلم الحشيش صبحي الصَحِن، ليتفقَ معهما على موعدٍ في نفس اليوم يُحشِّشون فيه، لقد حصل عبود على كميةِ حشيش من بائع الحشيش الملتحي، عندما رنَّ الهاتف الخليويّ القديم لِجمال والذي نادرًا ما يرنّ وأخبرَهُ عبود بموعد التحشيش الذي سيكون بحدود الساعة الثامنة والنصف مساءً، شَعَرَ بفرحةٍ قلَّما يشعر بها، خصوصًا أنّه دائمًا عابس، تجاوزَ الثلاثين من عمره وهو عابس، يتكلمُ ويضحكُ في حالتين، إذا سَكِرَ وإذا حشَّش، لا يعجبه أحدٌ ولا يوجدُ أحدٌ معجب به، لا يفعل شيئًا، إنّه بدون عمل، عاطلٌ باطل، ينظرُ إلى وجهه في المرآة كلّ يوم حينما يستيقظ من النوم ويبصقُ عليه بعنف، هاتفه الخليويّ قديمٌ جدًّا، يسقطُ من جيبه المثقوب والمشروخ من عند الزاوية الخلفيّة إذا نهضَ وإذا جلس، فيتناثر أشلاءً على الأرض، يضطرُ إلى الانحناء ليجمع أشلاءه ويعيده هاتفًا من جديد، غير أنّه كُلّما سقطَ وتناثرت أشلاؤه نقصَ منه شيءٌ ما يبحثُ عنه فلا يجده، أطرافُهُ مقضومةٌ كأنَّ فأرًا اتخذها وجبةً يوميّةً له.

يسكرُ كثيرًا ويُحشِّش أيضًا، لكنّه لم يصل إلى درجة المعلميّة في الحشيش، ولم يَنَلْ شهادة خبرة فيه مثل المعلم صبحي، لقد جاء اتصالُ عبود كهديةٍ إليه من السماء، حدَّثَ نفسه قائلاً : " يا سلاااااام، اليوم بدنا انحشش ، هيء هيء هيء ، والله غير نصل للسما ، يسعد ربك يا عبود، يا الله أميت بده ييجي الليل ؟!".

ولم تقل سعادة المعلم صبحي عن سعادة جمال، لكنَّه تظاهرَ بعكس ذلك لدواعي الوقار الذي تفرضُهُ معلميّة الحشيش، بل ماطَلَ وتلكَّأ قبلَ أن يقرر الحضور لولا إصرار عبود عليه، أخيرًا وافق بعدَ أن أتعبَهُ في إقناعه.

أكثر من عشرين عامًا والمعلم صبحي الصحن يتعاطى الحشيش، تجاوز الأربعين من عمره، لقد رَسمَ الحشيش وجهَهُ، عيناه بارزتان حتى توشكا أن تسقطا من مكانهما كَكُرتي زجاج صغيرتين، مائلتان إلى الحمرة أكثر الأحيان، تحتهما تجاعيد صغيرة كالخدوش، نحيفٌ متوسطُ الطول، شعرُهُ أسود خفيفٌ ناعم،يضعُ سيجارة خلف أذنه أكثر الأيام، لا يربي شنبَهُ كاملاً، بل يحلق طرفيه حتى تبقى بقعة شعرٍ تحت فتحتي أنفه وعلى حدودهما بمقدارِ بصمة الإبهام، يُفضل أن يلبس قميصًا أبيض وبنطالاً أسودَ قطنيًا للنوم، يكفُّ كُمَّيه إلى تحت الركبة بقليل، علمًا أنّ بحوزته "شورتات" كثيرة يستطيع ارتداءها دون أن يضطر إلى كفِّ كُميّ بنطال نومه دائمًا، سيّارته قديمة جدًّا، مُغبَّرة دائمًا، في جيبها الداخليّ أوراق بيضاء صغيرة مستطيليّة للفّ التبغ والحشيش وصحنُ ألمنيوم بمقدار كفّ اليد سرقه من بيته عليه أنبوب معدنيّ أسود بحجم الإصبع يُقال له "بِزْ "، يتمّ إدخال السيجارة في فتحته من الأمام ويُستنشق الدخان بواسطته، قد يُفقَدُ " البز" وكذلك الأوراق من جيب السيّارة، لكنّ الصحن دائمًا موجود، المعلم أكثر الأحيان يصول ويجول بسيّارته في شوارع البلدة، يعرف الجميع ويعرفه الجميع، يقف أحيانًا بسيّارته مع أحد المارّة، ولا حديث لأحد معه إلّا عن الحشيش، يسألونه عنه دائمًا " شو معلم فيش حشيش اليوم؟"، ودائمًا يُخرجُ الصحن من جيب السيّارة ويطقطق بالبز عليه أو يصفعه مرارًا بكفّ يده ويقول: "بكره جاييني دفعه حَبّوب" .

عبود الذي حدَّدَ موعد التحشيش ، جرَّب الحشيش مرةً واحدة فقط، فخبرته لا تُذكر فيه، لقد حلف بالطلاق من زوجته وبشرفه ألّا يعيدها ثانيةً : " الله يلعن شرف شرفي إذا بعيدها مرة ثانيّة "، لائمًا المعلم الذي نصحه بها مرارًا ولم يكن يقتنع، المعلم كان يقول له : " يا عبود، أنت خايف إنك تدمن،ما فيش فيها إدمان ولا هم يحزنون، إدمانها مش جسدي، إدمانها روحي يا أبو الحبايب، بعدين صدقني إنها بتخليك عبقري،انته ما بتحب تكون عبقري؟! صدقني إنها بتغنيك عن كلّ الكتب الي قريتها والي بدك تقراها، مش شايفني كيف بحكي أفكار العلماء نفسهم ما حكوها؟".

المعلم كان يأتي بنظريات غريبة، لم يسبقه إليها أحد ولا يقتنع بغيرها حتى لو أتاه كبار علماء العالَم، وأقنعوه بكلّ الحجج الملموسة وغير الملموسة لن يقتنع، وسيكذّبهم كلّهم، بل سيصفهم بالجهل وقلة الخبرة في الحياة، وإنْ أظهرَ أنّه مقتنعٌ يعودُ بعد أشهر أو أعوام ليسرد نفس النظريّة بصوتِه الدافئ البطيء، لقد لَحَّنَ الحشيش صوتَه كما رسمَ وجهَهُ، من إحدى نظرياته التي يريد من الناس أنْ يؤمنوا بها أنَّ الأُسود تعيش في حُفر المجاري وقد رآها بأمِّ عينه !

اقتنع عبود بالتحشيش آخرَ الأمر، وحينما جرّبَهُ، لم يشعر بما كان يصفُه المعلم، فلم يدمن روحيًا ولا جسديًا حتى، بل أصابتْهُ آلامٌ في المعدة وفي الروح أيضًا! وحلف ألّا يعيدها، ووصفَ المعلم بالكذّاب والمخادع، لكنّ المعلم لم يعترف بهذا الكلام، بل قال له بنظرة ازدراء : " جسدك لا يتحمل يا أخي لا يتحمل، هذه تحتاج إلى رجال " . ربما لهذا السبب فاجأ عبود صديقيه بحصوله على كميّة حشيش، وبقراره أنّه يريد التحشيش اليوم بعدَ مرور أكثر من عام على تجربته الأولى معها !

جاء الموعد المُنتظر أخيرًا، إنّها الثامنة والنصف مساءً، أخذ عبود جمال والمعلم من بيتهما بسيّارته، ثمّ توجهوا إلى سوق البلدة لشراء العصائر وقطع البسكويت المُمتلئة بالسُكَّر حسب وصايا المعلم فالحشيش يحتاج إلى تناول الحلويات معه حتى يكون فعّالاً أكثر، توقفتِ السيّارة ليس قبالة الدُكّان الذي كان على يمينها بل أمامه قليلاً، أشعلَ عبود ضوء سيّارته الداخلي بابتسامةٍ خبيثة توحي بانتصار عظيم، تناولَ من جيبها ورقةً بيضاء صغيرة ملفوفة بعناية. جمال الذي كان يجلس بجانبه، يراقبُ حركات يدِهِ جيدًّا، مُبتسمًا يكادُ يطير من الفرحة، المعلم الذي يجلس في الخلف، مدَّ رأسه بوقار بينهما ليرى، عندما فَتَحَ عبود الورقة وإذا بكميّة الحشيش قليلة جدًّا، ليست بمقدار قبضة اليد، وإنّما بمقدار قبضة إصبعين، السُبّابة والإبهام، ما زال عبود مُبتسمًا، عبسَ جمال، تحوَّل وقار المعلم إلى عبوس واضح أيضًا، ثمّ قالا لعبود معًا : إمم ، أهذه هيَ الكميّة التي جننت ربنا بها منذ الظهر؟! هذه لا تكفي فأرًا واحدًا !

عبسَ عبود وقال : البائع قال إنّها تكفينا الثلاثة ، علينا أن نلفّها بثلاث سجائر.

المعلم : إمم، والله أنت وبياعك أبو لحية ما انتو داريين عن الله وين حاطكوا .

جمال : عابس !

عبود : والعمل ؟

المعلم : مش مشكلة، رح أخليها فعّالة، رح أحاول بكل جهدي، هاي مهمتي، خليني أروح أشتري عصير وبسكوت.

نزلَ المعلم من السيّارة، توجه إلى الدكان، لَحِقاهُ بنظراتٍ خائبة،وبعد دقائق،جاء المعلم وبيده أكياس العصائر والبسكويت، ركب السيّارة، " هيا توكلْ على الله، سأجعلها فعّالة، لا عليكما، اذهبْ إلى مكانٍ خالٍ من الناس، ليكن السهول الزراعيّة، ، أعاد عبود ورقة الحشيش بحذر إلى جيب السيّارة، وقال: يا الله .

جمال : عابس .

تجاوزت السيّارة السوق وشارعَه الإسفلتيّ، وصلت إلى السهول الزراعيّة للبلدة، توقفت في منتصف طريق ترابيّة تفصل بين قطعتي أرضٍ صغيرتين خاليتينِ من الناس، لا يوجد فيهما إلّا بقايا المزروعات كالقمح والعدس التي زرعها أهل البلدة في الصيف قبل أشهر قليلة، وليس من أصوات فيهما سوى أصوات الصراصير والجنادب، وأصوات كلاب بعيدة آتية من الجبل البعيد قبالةَ الطريق الترابيّة، الجوّ معتدلٌ لا هوَ بالبارد ولا بالساخن، إنّه شهر تشرين الأول.

أشعل عبود ضوء السيّارة الداخليّ، تناول من جيبها ورقة الحشيش، أعطاها للمعلم، تناولها الأخير بحذر شديد حتى لا تسقط وتتبعثر وتضيع، فلتذهب السيّارة إلى الجحيم ولا يذهب الحشيش، بدأ المعلم عملَه، سحبَ علبةَ تبغه والأوراق البيضاء الصغيرة والصحن والبِزْ من جيب قميصه، وضعها جانبه، كَفَّ كُمّي بنطاله الأسود إلى ما تحت الركبة، وبوجهٍ بالغ الجديّة طَقطَقَ بالبِزْ على الصحن، سحبَ سيجارتين من علبة تبغه وفرَّغَ تبغها في الصحن، ثمّ فرَّغَ كمية الحشيش وخلطَها مع التبغ، تناولَ ورقتين ليلفَ هذا كله، عبود يراقبه من خلال المرآة، جمال يحكُّ رأسه وينتظر على أحرّ من الجمر آملاً أن تكون الخلطة فعّالة، المعلم بعدَ أنْ عبَّأ الورقتين بالتبغ والحشيش قالَ وهو يلحس بلسانه ورقتَي السيجارة لإلصاقهما بلعابه وإغلاقهما بإحكام : " عملتُ سيجارةً واحدة كبيرة، هكذا تكون فعّالة، وليس ثلاث سجائر كما قال بياعك أبو لحية يا عبود هذا الذي لا يدري عن ربه، كمية الحشيش هذه لا تكفي نملة واحدة"، أكملَ لحس الورقتين، إنّها سيجارة كبيرة كصاروخ مستعد للانطلاق، مَسَّدَ بقعة شنبه الصغير بها وشمَّها بقوة، ثم قال : " جاهزة ، أغلق نوافذ السيّارة يا عبود حتى لا يدخل الأكسجين، هكذا تكون فعّالة " .

أغلقَ عبود النوافذ، أشعل المعلم السيجارة، استنشق منها بقوة، عبود وجمال ينظران إليه بحماسة ورجاء بأن يكمل بسرعة، استنشقَ ثانيةً، أعطى السيجارة لجمال، استنشق منها مرتين أيضًا، يُدخل الدُخان إلى حلقه وصدره، يحبسُه هناك ثمّ يُخرجه، لم يتبقَ من السيجارة الكثير، جاء دور عبود، أخذ السيجارة، قالَ جمال : " يا عبود ضعها في فمك واستنشق بقوة كبيرة، واحبس الدخان في الداخل جيدًّا كما فعلتُ، هكذا تنفع معك، أنت قليل الخبرة "، فعلَ عبود كما سمع، استنشق الدخان بقوة، حبسه في صدره جيدًّا ثم أخرجه، انتهتِ السيجارة، رماها من النافذة، ثم نظرَ إلى جمال وابتسم وعيناه ذابلتان .

جمال : ها ها ها مالك يا عبود ؟ يبدو أنّها ممتازة رغم قلة كميتها، حششت كثير وما تأثرت بسرعة مثل ما تأثرت بهذه، شو رأيك يا صبحي ؟

صبحي : فعلاً ممتازة، هيء هيء هيء، ما اتوقعتها بهاي القوة، رغم خبرتي الطويلة بها، كنت أدخن أربع سجائر حشيش وبالكاد تؤثر بيّ، هيء هيء هيء، ياالله ننزل من السيّارة ونتمشى في الطريق.

نزل المعلم ، تبعه جمال الذي قال لعبود هيا انزل ما بك ؟

عبود : مش قادر، أشعر بالخدر... خدر كثير، مش قلت يا صبحي أنّها خفيفة وبالكاد تكفي نملة؟! شو مالي هيك أشعر بغثيان مزعج؟!

رجعَ صبحي إلى السيّارة وجلس مكانه في الخلف، ورجع جمال وجلسَ مكانه في الأمام بجانب عبود، ثم قال صبحي بانفعال وحماسة : يا عبود، اذهب معها إلى حيث تأخذك، لا تعاندها، إذا أخذتك إلى السماء فاذهب، إلى تحت الأرض فاذهب، لا تخَفْ منها، الآن ستتخيّل أنّ شخصين جالسين على صدرك، وستتخيّل أنهما يسحبانك إلى الحمّام ليحمّمانك، هذا عادي جدًّا، عِشْ هذا الخيال كأنّه حقيقة.

عبود بلسانٍ ثقيل ورأس متمايل : لا أستطيع، خدر... خدران .

صبحي : هيا لننزل من السيّارة، هيا يا جمال لننزله.

نزلا من السيّارة، فتحَا باب السائق الأمامي وأنزَلا عبود، نزلَ بصعوبة، مشى الثلاثة ببطء إلى آخر الطريق الترابيّة، ازداد نباح الكلاب على الجبل البعيد المقابل، وطول الطريق القصير والمعلم يشجّع عبود بأنْ يذهب مع الحشيشة إلى حيث تأخذه ماسكًا يدَهُ شادًّا عليها، جمال يشعر بالسعادة فقط ولا يتكلم، وصلوا إلى آخر الطريق ورجعوا، وفي الرجوع بدأ جمال يشعر بتثاقل، وبدأ عبود يهلوّس ويئِنُّ، وازداد المعلم فصاحةً وجديةً، وصلوا السيّارة من جديد، اتكأ المعلم وعبود على جانب السيّارة، وجلس جمال قبالتها على الأرض حيثُ التراب والحجارة الصغيرة، حانيًا رأسه صوبها وشفتاه مرتخيّتان ولسانه خارج من فمه قليلاً كالخروف المذبوح، تحرَّك عبود من مكانه ومشى إلى الأمام قليلاً ووقفَ قبالة الجبل البعيد وصاحَ : " ماذا فعلتُما بيّ ؟ أخرجوا الحشيش من جسدي، يا إلهي ما هذا، هل سأبقى هكذا فترةً طويلة يا صبحي ؟ "، أدركَ المعلم أنّ الأمر جاد، ارتَبَكَ ولم يرُدْ، نظر إلى جمال فوجده كأنّه على وشك الموت!

عبود : " أخرجوا الحشيش من جسدي، أرجوكم، لا أريد أن أموت الآن، يا إلهي ما هذا، ما زلتُ صغيرًا يا إلهي، ما زلتُ في التاسعة والثلاثين يا إلهي، لا أريد أن أذهب الآن، ما بال قلبي ينبض هكذا بسرعة؟؟ صبحييييييي، لماذا أشعر أنّ الزمن مشى بي إلى الأمام ألف عام، صبحي، هناك شخصان يسحبانني إلى عالم الموت، إلى أمي الميتة، أرجوك يا أمي لا أريد الإتيان عندك الآن، صدقيني مشتاق لك، لكن أريد أن أعيش الآن، هناك أشياء كثيرة لم أفعلها بعد ، لم أفعلها بعد يا أمي، أرجوك يا أمي أرجعي رسوليك إليكِ، أرجوك " .

مقبرة البلدة كانت قريبة من المكان، عادَ عبود متثاقلاً، جلسَ أرضًا ورمى رأسَه على عجلة السيّارة وأخذ يتنفس بسرعةٍ وبقوة، انحنى المعلم وأخذ يُمسِّد على رأسه وجبينه ولا يقول شيئًا، جمال ما زال في مكانه جالسًا ناظرًا إلى الأرض، مُرتخي الشفاه ولسانه بارز قليلاً، نباحُ الكلاب يزداد، ما الذي يحصل؟ جمال كالميت، وصبحي ضربتْه الحشيشة وهو الخبير لكنّه الوحيد الذي بقي نشيطًا نسبيًا أو اضطر إلى أن يكون كذلك ليعتني بصديقيه، وعبود يهلوس وطائر الموت يحلّق فوق رأسه، كلُّ واحد أصبح مشغولاً بمعاناته، لا وقتَ لأحدٍ أن يحزن على أحد ! لقد أخذوا جرعةً زائدة من نوع حادّ وقويّ رغم قلة الكميّة التي لا تؤخذ بهذه الطريقة !

صوتٌ خفيفٌ متثاقل يحرِّك السكون ويتوجه إلى المعلم : "جئتَ بنا إلى هنا لتقتلَنا يا صبحي "، نظرَ المعلم إلى جمال، تركَ عبود يتنفس بقوة، ثمّ تحركَ وذهبَ ناحيته، جلسَ قبالته وقال : جمال، انظر إليّ، ارفع رأسك، انظر إليّ أرجوك، أنا أضرّ نفسي ولا أضرّكما.

جمال : كذاب، سأتصل بالشرطة .

صَفَقَ المعلم جبهته بيده، ظلَّ واضعًا يده على جبهته قليلاً وقال : لا لا لا يا جمال، لا تَقُلْ هذا، لم أكن أعرف أنّها بهذه القوة صدقني .

جمال : ألستَ المعلم ؟! طز فيك .

صوتٌ كصوتِ الماء المدلوق بعنف من أنبوب ضخم، لم ينظر جمال فرأسه أثقل من دبابة، نظر المعلم فرأى عبود يتقيأ بعنف، ركض نحوه بسرعة وقال : ممتاز، سترتاح الآن، حاول أن تتقيأ أكثر، حاولَ عبود فعلاً، فتقيأ بعنف أكثر من المرة الأولى، أخرج كلَّ ما في معدته من طعام وشراب وغاز، أرجعَهُ المعلم إلى عجل السيّارة وأسند رأسه عليه، فنام مباشرةً ! رجع إلى جمال وقال : هيء هيء، الحمد لله، لقد نام، سيرتاح .

جمال : وربما مات وأنت السبب .

حبا المعلم هرولةً إلى عبود، وضع أذنه على صدره، ثم عاد وقال : هيء هيء، ما زال يتنفس، الحمد لله.

بعدَ أن استطاع جمال أن يحرّك رأسه قليلاً قال : إذا مات ستكون أنت المسؤول، سأتصل بالشرطة الآن.

المعلم بانفعال : يا رجل أنا مضروب منها مثلي مثلكم، وأشهد أنني طوال عشرين عامًا لم أجرِّب مثلها، لماذا لا تصدقني؟

ثمّ أخرجَ علبة التبغ من جيبه، أشعل سيجارة وتابع : يا رجل، أنا رجل متزوج وعندي أولاد صغار، وموظف عند الحكومة، هل ستتصل بالشرطة لتخرب بيتي ؟

جمال - وقد رأى أنّ المعلم أخذ الموضوع بجديّة فأصبح يتسلى معه بعد أن عاد إليه شيء من النشاط-:واللهِ هناك طاقة شريرة تنبعث من وجهك يا ابن الحرام .

المعلم : لا واللهِ الطاقة الشريرة تنبعث من وجهك وتنعكس على وجهي وأنت بتفكرها مني .

جمال : ها ها ها ، أسكت أيها الخبيث .

المعلم وقد ازداد حدةً : لا والله أنت الخبيث والقواد .

جمال : سنرى، ستدخل السجن مثل الكلب أنت وصحنك إلي ليل نهار تطقطق عليه ها ها ها.

المعلم : فشرت أيها الفأر .

ثمّ حبا ناحية عبود ، وضع رأسه على صدره وقال : ما زال حيًّا ، بصير خير يا جمال الكلب.

جمال : أنا الكلب؟ وماذا تكون أنت؟ معلم قال ها ها ها .

بَقِيا يتشاجران ساعتين، جمال يشتم المعلم، وهذا الأخير يردّ الشتيمة بأضعافها، وأثناء ذلك، كلّ ربع ساعة تقريبًا، يذهب المعلم إلى عبود ليتأكد من أنّه ما زال حيًّا أم لا، ثم يعود ويكمل شجاره مع جمال.

الساعة الثانية عشرة ليلاً الآن، صوتٌ متثاقلٌ يقطع شجار الصديقين، إنّه عبود، لقد استيقظ من النوم بعدَ أن نام ساعتين، " هيا لنغادر "، هكذا قال، حمل المعلم علبة تبغه، نهضَ سريعًا ليسوق السيّارة، فعبود لا يستطيع، نهض جمال أيضًا، ساعد المعلم عبود على النهوض، أجلسه في الكرسي الأمامي جانبه، ركب جمال الكرسي الخلفي، قبلَ أن تتحرك السيّارة سألَ المعلم عبود : كيف حالك يا صاحبي؟

عبود : جيد ، أرجوك تحرّك، أريد النوم في البيت، أوصلني إليه، ستبيتون عندي الليلة، يا خوفي ألّا أرى شمس الصباح!

تحركتِ السيّارة، تجاوزت الطريق الترابيّة بسرعة، قال جمال : على مهلك يا صبحي .

المعلم : إم ، يعني انته شايفني مستعجل ؟ إم .

المعلم فعلاً كان مستعجلاً، لكنّه لم يشعر، بدأت أضواء البيوت تظهر، الطريق الإسفلتية منحدرة الآن، تجازوتها السيّارة ثم صعدت طريقًا مرتفعة بسرعة، عبود مسترخٍ بين اليقظة والنوم، قال جمال للمعلم : هيء هيء ، كنتُ أمزح معك يا صبحي عندما كنت أهددك بالشرطة، أرجو ألّا تغضب مني.

صبحي : هيء هيء ، ولا يهمك، أخوي أنت يا جمال، هاتلي الصحن والبز من عندك.

أعطاه إياهما، وضع البز في جيب السيّارة، مسك الصحن وطقطق عليه بيده وقال : "وحياة هذا بضر حالي ولا بضركوا". شمّ الصحن بقوة وقبلَهُ، ثم وضعه في جيب القميص.

إححححححححححححح ، توقفت السيّارة، لقد دهس المعلم كلبًا قبل نهاية الطريق المرتفعة بأمتار، قربَ بيت أول الطريق التي تلتوي هناك بشدة لتستقيمَ بشدة إذا تجاوزتَها، فلا المركبات الآتية تظهر للمركبات العائدة ولا العائدة تظهر للآتية، لذا جرتِ العادة أنْ تُخفف السرعة في هذا المكان.

تراجعت السيّارة القهقرى وتوقفت عند حافة الطريق الأيسر، خرج المعلم وجمال من السيّارة، ظلّ عبود فيها، ذهبا إلى الكلب، تفحصه المعلم فعرف أنه ميت، أمسكه من ذيله وحملَهُ،بقي جمال واقفًا في منتصف الطريق، مشى المعلم بالكلب إلى حافة الطريق اليمنى المطلة على وادٍ، رماه فيه، صفَّق بيديه وعاد ببطء، شاحنةٌ كبيرة تأتي بسرعة، انتبه المعلم إليها، إنها متجهة صوب جمال، ركضَ إليه صائحًا "أخوي يا جمال، ابعد"، دفَشَه بكلتا يديه حتى أزاحه نحو سيّارة عبود، ضربت الشاحنة المعلم فرمته عشرين مترًا للأمام، ثم توقفت بصعوبة بالغة، طار صحنُهُ من جيبه، تدحرج على الطريق مُصدرًا رنينًا واضحًا ...

في اليوم التالي أعلن مؤذن البلدة وفاةَ المعلم صبحي، وأنّ الدفن سيكون بعد صلاة العصر، قبلَ الدفن زارَ عبود جمال، جلسا صامِتَينِ قليلاً، نهض عبود ليخرج، وقبلَ أن يفتح الباب نظر لجمال وقال : أنا ذاهب إلى المقبرة، ثم مدّ يده إلى جيب بنطاله وأخرج صحن صبحي،ناوله لجمال وقال: أظنّه يخصُكَ أكثر ممّا يخصني.

انتهت

نيسان ـ نشر في 2016-01-15

الكلمات الأكثر بحثاً