اتصل بنا
 

الفصحى كأداة سلطوية

كاتب وصحافي أردني

نيسان ـ نشر في 2016-01-16 الساعة 12:02

نيسان ـ

.

سألني صديق ذات مرة عن سبب إعجابه بأحد الكتاب ممن يوظفون اللغة الشعبية البسيطة في كتاباتهم وأنه يشعر بالمتعة النفسية والوعي المتجددة بمجرد قراءته لتلك الكتابات، أجبته أن ثمة كتاب ودعاة ومفكرون استطاعوا الولوج إلى وعي وقلوب الجماهير الشعبية بواسطة اللغة المحكية التي ينجذب إليها العامل والفلاح والأمي وتحقق له التعبير الأصيل عن ذاته وأفكاره وحاجاته.

لقد قامت المدرسة البنيوية منذ بدايات القرن العشرين على طرح قضايا اللغة فلسفيا وبيان أن اللغة توجد الفكر والواقع، وبرز الكثيرون في هذه المدرسة التي قدمت نظرة شمولية لدور اللغة في مختلف جوانب الحياة العامة للشعوب، الجانب النفسي، السياسي ، الاقتصادي...الخ.

يرى الفيلسوف اللغوي مصطفى صفوان وهو أحد تلاميذ العالم البنيوي جان لاكان في كتابه (لماذا العرب ليسوا أحرارا) أن تحرير الإنسان لا يتم إلا من خلال استراد حقه في القول والكلام ليصل إلى اكتشاف الحقيقة وليتخلص من الاستلاب الذي تمارسه المكبوتات النفسية، مصطفى صفوان أيضا محلل نفسي عميق يرى أن الغربة عن الذات الأصيلة تكون من خلال فصل الأنسان قسرا عن اللغة التي تعلمها على ثدي أمه.

ويعتبر صفوان أن اللغة العالية هي إحدى آليات الاستبداد التي سادت خلال قرون وأن السلطات الدينية والدنيوية بقيت متمسكة بوجود لغة ذات نصوص عالية بعيدا عن اللغة الشعبية لتضمن سلطتها وسيطرتها على العامة؛ تلك اللغة العالية تمارس هيمنتها وقدسيتها على العامة وتحرمهم من أهم حاجاتهم النفسية والعاطفية وتعيق اكتمال ذواتهم وتحررهم.

ملوك الدول القديمة كانوا يفصلون بنحو قاطع ما بين اللغة المستعملة في الكتابات في الكتابات الإدارية ووثائق الدولة وكل من الأدب والسحر والرياضيات والدين وبين لغة الحياة اليومية ، اللغة الاولى يسبغون عليها طابعا مقدسا لتمكنهم في السيطرة على شعوبهم.

يقول المفكر مصطفى صفوان " نحن حضارة اخترعت الكتابة منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام الا أن الدولة قامت باحتكارها جاعلة منها فنا باطنيا مقتصرا على الكتبة وهو ما نتج عنه أمية واسعة الانتشار" وهو بذلك يرى بضرورة العودة إلى اللغة الشعبية العامية التي يتعلمها المرء على ثدي أمه ومن خلالها يعبر عن وجداناته وهمومه وتطلعاته، فالفصحى لغة نخبوية غريبة عن الشعب وفوق مستوى تعبيره عن حاجاته، وهي لغة فوقية تؤدي إلى انفصال المرء عن ذاته ووجدانه وخبرته المعيشية، فهل يعني ذلك ترك الفصحى والتحول نحو العامية أم أن المطلوب هو التحديث والتبسيط كمرحلة أولى بحيث يمكن صياغة لغة محكية تكون مزيجا من العامية واللغة المثقفة السهلة.

لقد حسمت قضية الفصحى والعامية في أوروبا في عصر النهضة حيث تمكن كبار العلماء من كتابة النصوص الأدبية والعلمية باللغات المحكية وتم الفصل والقطيعة ما بين اللاتينية لغة النصوص والقوانين المقدسة واللغات الأوروبية المحلية، ولذا فإننا نجد في العصر الحالي أن لغة الشارع في فرنسا على سبيل المثال هي ذاتها اللغة الرسمية والمتداولة في مختلف المحافل، كما يبدو أن قضية قيام الديمقراطية في أوروبا لم يكن ممكنا إلا بعد حسم المعركة مع اللاتينية والتحول الى اللغات المحلية.

تكمن إشكالية الفصحى في أنها تعمل على تهميش الغالبية العظمى من الطبقات الشعبية عن ممارسة التعبير عن همومهم وتطلعاتهم وحاجاتهم ومستقبلهم وأن تلك الإشكالية كانت عبر التاريخ وفي اللغات القديمة سياسة متبعة لعملية فصل قسرية ما بين السلطة والمحكومين بهدف ترسيخ وتأبيد السلطة واحتكار النص القانوني والإداري والديني من خلال إضفاء الهالة المقدسة على تلك النصوص والحفاظ على بقائها في مستوى عال.

الفصحى هي لغة النصوص الدينية المقدسة ولغة النصوص القانونية والإدارية التي تحتاج إلى تأويل وتفسير كي يفهمها الناس وتحتاج دوما إلى وسيط وهذا الوسيط إما أن يكون رجل دين أو رجل قانون وهكذا حافظت السلطة في بلدان الشرق على استمرار تلك الحالة.

ويرى المفكر مصطفى صفوان أن أي نظام سياسي يعتمد على اللغة العالية بحيث أن أي نص لا يمكن تفسيره إلا من قبل سلطة واحدة مؤكدا لك بأنه يكفيك أن تفتحه كي تجد فيه كل الحقيقة عندها يمكن اعتبار الاتحاد السياسي حكما إلهيا زمنيا فها هو البيان الشيوعي والذي شكل لدى المنظومة الشيوعية نصا مقدسا احتكر ستالين تفسيره كما شكلت النصوص الدينية المقدسة أحكاما صارمة احتكرت المؤسسة الدينية تفسير نصوصها دون السماح لأية اجتهادات بالخوض في هذا المجال، وثمة مثال من مصر عبد الناصر عندما قام الأخير باحتكار الحياة الثقافية وتأميم الصحافة، وإذا تسنى للكتاب الكتابة في الفصحى فإن أقلامهم تصبح السجن الذي يفصلهم عن مواطنيهم بقدر ما يفصلهم عن الموارد الغنية للغة الأم.

نيسان ـ نشر في 2016-01-16 الساعة 12:02

الكلمات الأكثر بحثاً