اتصل بنا
 

المطر يفكر

نيسان ـ نشر في 2016-01-26 الساعة 21:06

x
نيسان ـ

>

سليمان محمد أبو شارب

قطرات المطر تتزاحم عند عتبة نافذتي، تطرق عليها بقوة محاولة أن تقتحم غرفتي، تتوشحني بنظرات غريبة، لسان حالها يتهم قلبي بالقسوة، شخير أنفاسها المستمد من صدى الكون يعذب ضميري بشدة، القطرات صغيرة للغاية، تنساب على زجاج النافذة بخطوط مائية مائلة آيلة للهلاك، مصيرها الاستقرار بين أكناف تراب مداس من بشر كانوا قد رفعوا أيديهم قبل قليل للسماء طالبين الغيث، وهاقد هطل...

استعطفتني القطرات بإيماءات شفافة تجسد الأسى في أعماقها، فرأيت أطفالاً يرتجفون في صميمها، لم يجدوا لهم مأوى غيرها، خافوها فاقتربوا منها، واحتضنتهم كأم رؤوم، فصرحت لي بكل ثقة، أنها صغيرة لكنها حملت في أعماقها ما عجزت عنه قلوب مجبولة من لحم ودم، ربما تكون أقرب لقلوب بشرية!

الهواء يتفنن في هز خواصر القطرات، وهي تتمايل على أنغام حفيف الهواء، ونافذتي هي قاعة الرقص، وأنا ما أزال أراقب تلك القطرات وهي تنهار تحت شهوة الهواء الحيوانية، فقد أصر أن يراقصها حتى تلاشى جسدها، وعادت لذرات كيميائية حيث منبع أصولها. ولم يبق من الأطفال سوى آهات مترنمة على إيقاعات "اللهم نفسي".

دعوات الناس ما تزال تتراكم حول الأفواه الجائعة، والكل ينادي " اللهم زد وبارك" والهواء قد سكنت شهوته وغادر المكان، بينما قطرات المطر ما زالت تنهمر بكثافة على نافذتي وكأنها تنتقم لبنات أجنتها، والعجيب أنها ما تزال تتقطع لأشلاء على مرأى عيني، رغم أن الهواء قد اختفى، ورغم أن الأطفال قد قتلهم البرد بعدما لم يجدوا سوى الموت ملجأً لهمومهم وأحزانهم، وقطرات المطر ما تزال تقتلنني بإتهاماتها، وتريد أن تدخل غرفتي خوفاً من عالم خارجي قد استفحلت فيه الأنانية، وسيطرت عليه قوى الخبز، وتراكمت فيه الرذائل، تريد أن تلجأ إلي بعدما لبت نداء هؤلاء البشر، وحينما وجدت منهم الإنكار، أرادت أن تتوارى في غرفتي خوفاً من الأوزار.

وقفت متجمداً أمام نافذتي وفي داخلي صراعات تستفحل في أحشائي، أريد أن أنقذ هذه القطرات من الهلاك، وفي الوقت ذاته أريد أن أنعم بالدفء، لا أريد لغرفتي أن تتحول لمستنقع مائي ملوث بأنفاس الرذائل نحن بغنى عنه. لذلك أعطيت النافذة ظهري وهممت بالجلوس، لولا أن طرقات القطرات بدأت بالازدياد واخترقت طبلة أذني لتجعلها تتأرجح بين العاطفة والعقل، وفجأة رأيت نافذتي قد أصبحت ورقة بيانية مليئة بالخطوط المائية غير المتوازية وكأنها تعلن ثورتها على الحياة ودعوات الناس التي لا تخلص، وحاجاتهم التي لا تنضب، وحبهم للأخذ وكرههم للعطاء، فأغمضت عينيها وقررت الاستسلام محاولة أن تقنع نفسها في تحويل التراب لطين يصلح أن يخلد تخبطات البشر على سطحه بعيداُ عن نواياهم التي لا يعلمها إلا الله، وحينما أدركت بما تفكر به هذه القطرات دفعني ضميري لأفتح النافذة وعندما أوشكت على ذلك، صرخت بي أمي معلنة عن غضبها، قائلة:

- هل أنت مجنون، هل تريد أن تصاب بالمرض؟!

حدقت في وجه أمي الذي يحمل في تجاعيده خبرة كبيرة، وفكرت بكلامها كثيرا، فهل يعقل أن يسبب لي هذا الخير الرباني المرض لمجرد أنني اقتنعت بأفكار القطرات، بينما هذا الشر الذي نجده في كل زاوية من زوايا حياتنا نستسلم له ونجعله يقتحم كل غرف حياتنا كيلا يؤذينا ويسبب لنا الأمراض على اختلاف أنواعها.

نيسان ـ نشر في 2016-01-26 الساعة 21:06

الكلمات الأكثر بحثاً