اتصل بنا
 

تغيير عصي على الإلغاء

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2016-01-27 الساعة 15:52

نيسان ـ

.

لن تكون عمليات التغيير المجتمعية والسياسية التي أطلقتها الثورات العربية سوى عميقة التأثير، وطويلة المدى، وغير قابلة للإلغاء.

تراجعت مصر بقسوة خلال العامين الماضيين، إلى الحد الذي تلاشت معه آمال الكثير من الناس في مجتمع حر ودولة وطنية عادلة.

أحكمت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية قبضتها وأطلقت يدها القمعية، فأماتت السياسة وحاصرت المجال العام وأنتجت عبر وسطائها وممثليها المتنوعين الكثير من الضجيج والصخب فارغَيِ المضمون إنْ في المساحات الإعلامية أو في سياق مشاهد انتخابية هزلية أو داخل مؤسسات تشريعية مشوهة.

مستندة إلى قوانين بائسة كقانون التظاهر وقانون الكيانات الإرهابية ومنتشية بغياب ضمانات فعالة للشفافية وللمساءلة والمحاسبة، تورطت الأجهزة الأمنية في مظالم وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والحريات وصنعت بيئة مجتمعية عالية التوتر وقابلة للعنف.

ولم يقف التورط في الظلم عند حدود الأجهزة الأمنية، بل تعداها باتجاه مؤسسات رسمية أخرى لم تعد تحظى بالثقة الشعبية التي كانت لها من قبل وباتجاه النخب الاقتصادية والمالية التي عمق اعتياشها على ثنائية "تأييد الحكم نظير الحماية والعوائد" من الشروخ المجتمعية.

شهدت مصر هذه التراجعات خلال العامين الماضيين. وسبق ذلك تعثر الانتقال الديمقراطي بين يناير/كانون الثاني 2011 ويوليو/تموز 2013 بسبب خطايا كثيرة ارتكبتها الحركات الإسلاموية والليبرالية واليسارية التي شاركت في الحياة السياسية، كان أشدها وطأة:

1) الاستعلاء على مطالب الناس الاقتصادية والاجتماعية وتجاهل أن هدفي العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد مثَّلا مع الأمل في الحرية حجر الزاوية في الاحتجاجات الشعبية الكثيرة قبل وبعد يناير 2011.

2) تورط جميع المشاركين في الحياة السياسية في صراعات حول هوية المجتمع والدولة ودور الدين في السياسة والموقف من حقوق المواطنة المتساوية على نحو صنع حالة من الاستقطاب الحاد، وأخاف قطاعات شعبية واسعة كانت ترفض احتكار السياسة زيفًا باسم الدين وتبحث عن مواطنة لا تمييز بها بسبب الدين أو المذهب، وأنتج انطباعا عاما بتهافت ممارسي السياسة وعجزهم عن الاهتمام بقضايا الناس الحقيقية، قضايا الخبز والوظيفة والظروف المعيشية وخدمات التعليم والصحة والرعاية.

3) نزوع الحركات الإسلاموية، مدفوعة بغرور النجاحات الانتخابية المتتالية، إلى الاستئثار بإدارة شؤون الحكم والسلطة، وسعيها إلى التحالف مع مؤسسات رسمية ونخب اقتصادية ومالية لم تتحمس قط للانتقال الديمقراطي، وإسقاطها لمبادئ احترام حقوق الإنسان والحريات وإصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة صياغة العلاقات المدنية-العسكرية على نحو ديمقراطي من حساباتها.

4) استعداد الحركات الليبرالية واليسارية للمساومة على الآليات الديمقراطية باستدعاء الجيش للتدخل في الحياة السياسية، وانقلابها على صناديق الانتخابات التي كان يمكن لها أن تباعد بين الإسلامويين وبين الحكم والسلطة إن كانت الليبرالية المصرية واليسار المصري قد استثمرا في بناء القواعد الشعبية واحترما حرية المواطن في الاختيار دون وصاية، وتيقنا من أن الآليات الديمقراطية كفيلة بتخليص الناس من زيف توظيف الدين في السياسة وكفيلة أيضا بإظهار تهافت السياسات العامة للحركات الإسلاموية ما لم تبدأ في التعامل مع السياسة بعيدا عن الشعارات الرنانة.

5) رفض المؤسسات الرسمية، النظامية كالجيش والشرطة وغير النظامية كالسلطة القضائية، ومعها الشرائح العليا في الجهاز الإداري للدولة والنخب الاقتصادية والمالية لانتقال ديمقراطي يهدد مواقعها في الحكم ومصالحها المرتبطة بالثروة، والمواقع والمصالح هذه استقرت خلال عقود طويلة. بعبارة أخرى، لم تكن مراكز القوة المجتمعية والسياسية مستعدة لقبول الانتقال الديمقراطي بما يتضمنه من تداول للسلطة وصياغة جديدة للعلاقات المدنية-العسكرية وسيادة قانون شاملة دون تعهدات صريحة بالحفاظ على حد ما من مواقعها ومصالحها أو دون ضمانات قاطعة بتدرُّجية الانتقال وبمشاركتها في إدارته.

ودفعها خوفها من انتقال ديمقراطي غير معلوم الجوهر والمضمون إلى محاربته، ثم الانقضاض عليه وتجديد دماء السلطوية بعد سلسلة خطايا كارثية للإسلامويين وغيرهم وبعد أن انهارت ثقة الناس في الحركات السياسية وبدت قطاعات شعبية واسعة جاهزة للعودة إلى الوراء، إلى ما قبل 2011.

على الرغم من ذلك، من عثرات الفترة بين 2011 و2013 ومن تراجعات العامين الماضيين، تظل عمليات التغيير المجتمعية والسياسية التي أطلقتها ثورة يناير في مصر فاعلة ومؤثرة وعصية على الإلغاء.

بين 2011 و2013، عانت مصر بفعل تعثر الانتقال إلى مجتمع الحرية والدولة الوطنية العادلة بعد ثورة يناير. ومنذ صيف 2013، ومصر تعتذر عن محاولة الانتقال الديمقراطي وتترك إدارة شؤون الحكم بها لسلطوية جديدة أماتت السياسة، ومكنت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من خنق المجال العام والسيطرة على المؤسسات الرسمية وانتهاك حقوق وحريات المواطن على نحو غير مسبوق.

طوال العامين ونصف الماضيين، ومصر يثقل كاهلها الظلم تارة وإهدار كرامة الإنسان تارة ثانية وهيستيريا البطل المنقذ تارة ثالثة. طوال العامين ونصف الماضيين، ومصر تتكالب عليها أزمة التنمية الغائبة التي لم ولن تطلقها "المشروعات القومية الكبرى" بمفردها، ويتنازعها قهر الظروف المعيشية المتدهورة للأغلبية الفقيرة ومحدودة الدخل بين السكان، وتدميها وتائر العنف والإرهاب المتصاعدة.

طوال العامين والنصف الماضيين، والضمير الجمعي للكثير من مؤيدي السلطوية الحاكمة يغلب الإنكار على الاعتراف بشأن جريمة رابعة، وبشأن جرائم القتل خارج القانون، وبشأن جرائم التعذيب في أماكن الاحتجاز، وبشأن المعاملة غير الآدمية للمسلوبة حريتهم، وبشأن حبس الآلاف الذين لا نعلم عن مصائرهم إلا القليل، وبشأن فاشية العقاب الجماعي التي تصنف جميع معارضي السلطوية كخونة ومتآمرين وتبرر لتصفيتهم جسديا أو معنويا، وبشأن مقايضة الناس لكي يستكينوا إلى الخبز مقابل الحرية.

وعلى الضفة المجتمعية الثانية، يغلب الضمير الجمعي للإخوان المسلمين الإنكارُ على الاعتراف بشأن تخليهم عن مقتضيات الانتقال الديمقراطي بين 2011 و2013، وبشأن النتائج السلبية لتوظيف الدين بهدف احتكار السياسة وللاستعلاء باسم صناديق الانتخابات على من كانوا شركاءهم في طلب الديمقراطية، وبشأن كارثة التحريض الطائفي والمذهبي التي فرضتها التيارات السلفية على جماعة الإخوان ولم تستطع الأخيرة التخلص منها، وبشأن النزوع إلى تبرير العنف ضد المجتمع والاحتفاء بالعنف ضد مؤسسات وأجهزة الدولة الحاضر في بعض أوساط الجماعة.

وبين ضفة مؤيدي السلطوية الحاكمة وضفة الإخوان، ترتفع تدريجيا أصوات مجموعات الدفاع عن العدل والحق والحرية والأمل في استعادة مسار انتقال ديمقراطي. غير أن وضعية إنكار من نوع آخر تغلب أيضا على بعض هذه المجموعات. فازدواجية معايير من اختاروا الصمت على المظالم والانتهاكات التي أسقطت ضحاياها بين صفوف الإخوان وغيرهم من الإسلامويين المتعاطفين معهم بينما أدانوا دوما الانتهاكات التي طالت "من يتشابهون معهم"، لا تجد سوى القليل من الاستعداد للاعتراف بها والتعامل مع تداعياتها المدمرة على المصداقية الأخلاقية والإنسانية للفكرة الحقوقية ذاتها (يستحيل أن يتبقى ولو الشيء القليل من المصداقية هذه إزاء الصمت على جريمة رابعة).

ولا يريد أحد أن يدرك كون الافتئات الزائف للبعض باسم العدل والحق والحرية على حرية المواطن في رفض ثورة يناير ومعاداة الفكرة الديمقراطية وتأييد السلطوية، كونه يجرد المدافعين عن حقوق الإنسان من الثقة الشعبية ويحيلهم إلى خانات المنادين بمُثل عليا لا تُطبق سوى انتقائيا. ويواصل البعض الآخر الركض يمينا ويسارا بحقيبة "أختام النقاء الثوري" معلنا بطولته الذاتية وصدمته في "الجماهير" أو "القطاعات الشعبية" التي ترفض المطالبة بالانتقال الديمقراطي، ومتجاهلا بالمرة لكون ظروفها المعيشية المتدهورة أو حقائق الخوف من الآلة القمعية للسلطوية الحاكمة أو سطوة اليأس من إمكانيات التغيير أو كافة هذه العوامل تحول بينها وبين العودة إلى الهتاف للعدل والحق والحرية.

جميعا يتناسون الاحتجاجات الطلابية والشبابية والعمالية المتمسكة بالسلمية والآخذة في التصاعد طوال العامين والنصف الماضيين، وينزعون عنها جوهر مقاومة السلطوية الذي لا وجود حقيقي له إلا هنا.

على الرغم من كل ذلك، على الرغم من التعثر والتراجع ومن غلبة الوضعية الإنكارية على مؤيدي سلطوية اليوم ومناصري سلطوية الأمس وبعض المدافعين عن العدل والحق والحرية، ليست بلاد ما بعد ثورة يناير 2011 كبلاد ما قبلها. والتغيير الجوهري، والذي أراه غير قابل للإلغاء، هو التناقضات الهائلة التي باتت تحاصرنا وتقضي على الفرص الفعلية لاستمرار طويل المدى للأوضاع الراهنة. توظف السلطوية الحاكمة اليد القمعية لإعادة الخوف إلى النفوس ومنع المواطن من الاقتراب من المجال العام، ثم تبدو هي أكثر خوفا وتوجسا وقلقا.

تنكر جماعة الإخوان المسلمين وجود اختلافات بين القيادات والأعضاء، ثم تعصف بها الصراعات الداخلية. يبحث البعض في سياقات المدافعين عن حقوق الإنسان عن أدوار البطولة، ثم ما يلبث الواقع أن يتجاوزهم ويخرج على الناس والرأي العام بالأبطال الحقيقيين، ضحايا المظالم والانتهاكات

هافينغتون بوست عربي

نيسان ـ نشر في 2016-01-27 الساعة 15:52

الكلمات الأكثر بحثاً