النفي قصة لـ (محمد صالح الطحيني)
نيسان ـ نشر في 2016-01-29 الساعة 18:50
>
على محيط النفس تطفو مشاعر الحنين والخوف كومضات تنبثق ثم تتلاشى وسط الضجيج. هناك الوطن خلف البحر وهنا الحنين والغربة. شعور يعتصر قلبي وغصة لا تنتهي. وجه أمي والشمس وأشجار النخيل صور تبعث الدفء في قلبي، ليعود صقيع الخوف والوحدة فتجمد دقاته كلما تصورت خارطة الوطن وبقع سوداء تنتشر فيه هنا وهناك، بقع بحجم أنفاسي، عشت فيها طويلاً حتى باتت تسكنني رعباً وفزعاً، بقع تتصل فيما بينها بأروقة بلا مصابيح، وعند كل منعطف غرفة للتحقيق. هناك يسألونك عن كل شي حتى أحلامك ويتهمون أمك بالعهر.
أقبية تصل العواصم ببعضها بعضاً بدهاليز سرية قد تعفنت من الظلمة، وأنتنت بمؤتمرات تولي العرش الممتد على جسد الوطن.
أيقظني من أحلامي هذه، صوت قرع عصا على بلاط المقهى وهو يقترب مني:
· هل أنت عربي؟ قالها بالعربية، وجلس قربي.
كان شيخاً يناهز الستين، أغرب ما فيه عصاه تلك؛ آثار السنين بادية عليها بشقوق كانت نفسها على وجهه، ولكن بشكل أعرض وأقسى.
تابع حديثه:
· لا بد أنك عربي، فهاتان العينان وهذا السمار البدوي يدلان على أنك عربي وهارب من هناك.
أجبته والفزع يفضحني بصوتي:
· نعم أنا عربي ومن هناك لكني لست هارباً كما تقول.
ضحك ضحكة عالية وقال:
·لا تخف يا بني، فهؤلاء الأشباح الذين يقطنون رأسك لا وجود لهم في هذه المدينة.
غبي هذا الرجل، فهو لا يعرف أنهم في كل مكان، ولا بد أن أحدهم قابع في إحدى جيوبه، وما الذي أدراه ما يدور برأسي؟ لعله واحد منهم؛ فهم يعرفون كل شيء، حتى الأحلام يعرفونها ويحاسبون عليها.
سألته وأنا أتصنع الشجاعة:
· وهل أنت أيضاً عربي؟
أجابني بنظرة حزن محولاً نظره خلف البحر:
· نعم أنا عربي ومن هناك، قاسيت الكثير. يكفيني أني فقدت هناك زوجة وطفلة.
أحزنتني آلامه التي كانت تتجسد بكل نبرة في صوته، بكل تعبير من تعابير وجهه، وهذا ما دفعني لأن أطمئن جانبه وأتابع معه الحديث.
· ولكن كيف عرفت أني هارب من هناك؟
نظر إليّ بحزن ونظر إلى يدي التي كانت تحمل فنجان القهوة وقال:
· آثار وحشيتهم بادية على يديك.
وبحركة عصبية وضعت فنجان القهوة وأخفيت يدي. غصة في الحلق وصور تداخلت في الذاكرة؛ فمهما بلغت شدة الألم ووصلت الأعصاب إلى مستوى تفقد فيه القدرة على التنبيه، ثمة بقعة في الدماغ البشري تستمر بعملها، وتلك كانت مصيبتي؛ أذكر كل شيء: أصواتهم، أشكالهم أراها من خلف عصابتي، أنيابهم تطاولت من كثرة استعمالها وأحيانا كانت تقطر دماً. أين فهد؟ ومتى شاهدته آخر مرة؟ من أصدقاؤك غيره؟ من كان معكم؟ تكلم يا ابن الـــ....... وأفقد جزءاً آخر من يدي.
أعادني إليه بسؤاله:
· ولماذا أخفيت يدك؟ آثارهم هذه وسام لك، كنت أظنهم قد غيّروا أساليبهم وابتكروا أساليب جديدة، ولكنهم على ما يبدو يحنّون لتلك الأساليب، فهي تجعلهم يتلذذون أكثر من استعمالهم لأسلاك الكهرباء وأجهزة الشد، فتلك الطرق تترك خلفها المزيد من الدماء.
نظرت إلى أصابعي وقلت له:
· أنت تقول هذه الآثار بمثابة الوسام لي، وهم يقولون: إنها دليل خيانتي وتآمري على أمن الدولة.
وبعصبية قاطعني:
· كلاب، كلُّ ما يقولونـه كذب. هم أخطر من الطاعون نفسه، هم الخائنون، هم المتآمرون على الإنسانية ذاتها. أنت، بالله قل لي: ماذا فعلت حتى أصابك ما أصابك؟
قلت له، وكأني أبرئ نفسي أمام قاضٍ سيحكم عليَّ بعد قليل:
· والله لم أفعل أي شيء سوى أني أحببتُ وطني وتغنيتُ به في قصائدي.
وضع عكازه على مسند الكرسي، اقترب مني قائلاً:
· أرأيتَ؟ هذه هي الخيانة عندهم. يجب أن تحب مولاهم وتنظم قصائدك لمدح دلائل نبوته، عندها ستكون المقرب لديهم، أما أن تُظهرَ عريهم فـ "لا"؛ لأنَّ عريهم فاحش، إن فعلت هذا أو حتى إن فكرت فيه، فسيمسحونه من ذاكرتك بأية طريقة؛ فأنت مهما عاشرتهم أو رأيت منهم، فإنك لا تعرفهم كما أعرفهم. لذا لا تقنع نفسك بأضاليلهم، لأنّك لو فعلت فقد حكمت على نفسك بالغباء وحققت لهم مبتغاهم. حدثني عنك أكثر؛ يبدو لي أنك قاسيت الكثير مثلي!
· قلت له: أرجوك يا عم، إنك لَتضعُ يدك على جرح حسبتُه قد اندمل.
أخذ بيدي بعد أن تناول عصاه ونهض، ثم قال:
· هلمَّ بنا يا بني، فكثير من الجراح تحتاج لمشرط كي يزيلها، تعال معي إلى مكان أقل ضجيجاً من هذا المقهى. سأدلك على منزلي فأنا أدعوك لتناول الشاي العراقي معي.
ودون أن ينتظر موافقتي سحبني من يدي خارج المقهى وتابعنا المسير بموازاة شاطئ البحر. انتابني مزيج من الخوف والحذر كلما نظرتُ في وجهه، وهو يسير قربي بخطىً وئيدة يزيدُ على وقعِها صوت قرع عصاه على بلاط الرصيف. ولا أعرف ما الذي جعلني أتذكر شيخ الجزيرة في قصة السندباد!
أخيراً، وصلنا إلى منزله. لم يكن بعيداً عن المقهى، منزله بدا غريباً هو الآخر؛ لم أعرف لأي غرض صُمم؛ فهو لم يكن منزلاً بالمعنى الصحيح، كان أشبه بتلك الغرف الصغيرة التي يجعلونها سكناً لحراس المنازل الفخمة، لكنه كان مرتباً من الداخل على الرغم من أثاثه البسيط! جلس على أول كرسي صادفه وأسند رأسه على عصاه وخاطبني بصوت منهك:
· تفضل إنه منزلك على الرغم من تواضعه، فأنـا أعتزُّ به فهو يعرف كل أسراري، إذ طالما حدثت نفسي فيه بصوت عال، وذلك مرض أصابني بسبب الوحدة.
جلستُ قربه سائلاً:
· وما الذي أرغمك على ترك الوطن والعيش وحيداً أواخر أيامك ؟ فأنت بحاجة لأي شخص يؤنس وحدتك ويرعاك.
ودون أن ينظر إليَّ أجابني:
· ليس مثلك من يسألني هذا؛ فأنت تعرف أن هناك أكثر من سبب يرغمك على أن تتخلى عن أهلك، عن جزء منك، عن وطنك! ثمَّ ما أدراك أني بحاجة لمن يرعاني؟ أنا أستطيع أن أرعى قبيلة بأكملها. أُفضّل أن نكمل حديثنا ونحن نشرب الشاي فأنا بحاجة إلى قليل من الدفء.
نهض متوجهاً إلى زاوية الغرفة، بينما تابعت تجوال نظري داخل غرفته. وقفتُ طويلاً أمام صورة لفتاة في مقتبل العمر، عاد إليَّ وهو يدندن أغنية شعبية، لكنه صمت عندما رآني أنظر إلى تلك الصورة وقال:
·هذه ابنتي نور...
مئات من الصور تداعت أمامي تحولت جميعها إلى قطرات من الرصاص المنصهر لتنسكب على قلبي لتزيده حرقة وجوى. ولم أعرف كيف خرجت من عنده وكيف وصلت إلى البحر وألقيتُ بجثتي على رماله.