اتصل بنا
 

مقامرة السلطوية في مصر

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2016-02-16 الساعة 08:29

نيسان ـ

هو احتمال من اثنين؛ فإما مراهنة من السلطوية الحاكمة في مصر على استحالة عزلتها الدولية بسبب الأوضاع المتفجرة في بلاد العرب، أو افتراض أن التناقضات القائمة بين القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في صيرورة الأزمات العربية من سوريا والعراق وفلسطين واليمن وليبيا إلى إرهاب عصابات داعش ستقدم دوما للسلطوية المصرية فرصا للتحالف والتعاون مع بعض هذه القوى ومن ثم تضمن لها شيئا من القبول الدولي والإقليمي.

دون أخذ أحد هذين الاحتمالين في الاعتبار حين النظر في الأحوال المصرية، سيتعذر تفسير اندفاع السلطوية الحاكمة إلى جرائم وممارسات قمعية غير مسبوقة في عنفها وتراكمها واتساع مساحاتها وتنوع ضحاياها. دون أخذ أحد هذين الاحتمالين في الاعتبار، سيستحيل إدراك مواصلة السلطوية للقمع في لحظة مجتمعية تتكالب بها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على المصريات والمصريين، وتتصاعد بها معدلات عدم الرضاء الشعبي عن الحاكم، ويستقر في ثناياها وبين قطاعات سكانية ليست بالصغيرة انطباع سلبي مؤداه أن المستقبل القريب لن يشهد تراجعا في الأزمات أو تحسنا في الظروف المعيشية للناس.

ترفض السلطوية الحاكمة الاعتراف بالهاوية التي زجت الوطن إلى حافتها، وتدفع أذرعها التبريرية إن في الإعلام المدار أمنيا أو في الجامعات المسيطر عليها أمنيا أو في السلطة التشريعية المشكلة أمنيا أو في المؤسسات الرسمية الخاضعة لطغيان المكون النظامي (العسكري والأمني والاستخباراتي) على المكونات المدنية والبيروقراطية إلى صياغة خطاب متهافت ومشوه يزعم الانتصار على «أعداء الوطن» ومواجهة «المتآمرين على الدولة وأمنها واقتصادها» والوقوف «صفا واحدا» لتحقيق «إنجازات اقتصادية واجتماعية كبرى» ويضفي هالات بطولة زائفة على الحاكم الفرد / البطل المخلص الذي جادت به الأقدار على المصريات والمصريين كرئيس الضرورة. تصيغ الأذرع التبريرية مثل هذه المقولات المتهافتة والمشوهة وتروج لها في عرض البلاد وطولها؛ فتسمع وتشاهد في وسائل الإعلام العام والخاص، ويرددها كتاب وأكاديميون ارتضوا «تحالفا فاوستيا» مع شيطان السلطوية نظير الحماية من القمع أو أملا في عوائد خدمة السلطان، وتصدح بها ألسنة «نواب الأجهزة الأمنية» تحت قبة مجلس تشريعي منزوع المصداقية ولا يمثل غير الأجهزة التي شكلته.

أما حقائق القمع والانتهاكات ووقائع الظلم والفساد، فلا وضعية لها في خطاب السلطوية الحاكمة غير الإنكار تارة والتبرير تارة أخرى. يسقط ضحايا لجرائم القتل خارج القانون التي تتورط بها الأجهزة الأمنية المصرية، فينكر وجودهم بداية ثم يبرر قتلهم بتعميم هوية الإرهابيين وإلصاقها بهم. يسقط ضحايا لجرائم تعذيب ممنهج في أماكن الاحتجاز وخارجها، فينكر حدوث التعذيب بداية ثم يبرر تحت ضغط مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات كتجاوزات فردية غير عمدية. يسقط ضحايا لسطوة الأمن على المواطن والمجتمع وللعصف بسيادة القانون ويزج بهم إلى حبس احتياطي لا حدود زمنية نهائية له أو لعمليات تقاضي لا تصون مقتضيات العدالة وضمانات الحقوق والحريات، فتستدعى مقولات «حماية أمن الوطن والحفاظ على سلامة الدولة ومواجهة المؤامرات المحيطة بنا» لتبرير سلب حرية آلاف المصريات والمصريين.

تتراكم الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية وتأخذ إما أبعادا حادة من أزمة مياه النيل إلى الأزمة النقدية أو تستمر دون تحسن كما في معدلات الفقر والبطالة والتهميش وانهيار مستويات الخدمات التعليمية والصحية وخدمات التأمينات، فتنتج السلطوية ممثلة في الحاكم وفي الأذرع التبريرية خطابا إضافيا ذي طبيعة خيالية عن «الإنجازات الكبرى» وتأتي ببعض مكوناته من دولاب السلطوية القديمة التي حكمت مصر إلى 2011 (شبكات الطرق التي تم الانتهاء منها، والمشروعات الاقتصادية الكبرى التي بدأت، والأراضي الصحراوية التي استصلحت، والمجمعات السكانية التي تم تشييدها في لمح البصر). وعلى هوامش خطاب السلطوية الخيالية يدفع بمسؤولية عدم شعور المصريات والمصريين «بالنتائج المبهرة للإنجازات الكبرى» باتجاه الحكام السابقين الذين تركوا «الدولة كأطلال دولة» وتجاهلوا «التنمية المستدامة» أو باتجاه الإخوان المتآمرين وعملاء الطابور الخامس.

يتصاعد الاستقطاب المجتمعي على وقع اقتراب المظالم والانتهاكات من دوائر الحياة اليومية للكثير من المصريات والمصريين وعلى وقع الاحتجاجات السلمية المتزايدة للعمال والطلاب والشباب ولقطاعات مهنية متنوعة ـ ليس أطباء مصر بأصحاب نموذجها الوحيد، فينفي كل ذلك برمزية اصطفاف وطني مجرد من المضمون وبمقولات فاشية تصنف كل مطالب بالحق والحرية وكل معارض سلمي للسلطوية كخائن وعميل.
تقامر السلطوية الحاكمة في مصر بالمواطن والمجتمع والدولة، دون اكتراث بالهاوية التي تزج بنا جميعا إلى حافتها.

تقامر بسياسات وممارسات مآلها الوحيد هو الفشل، دون إعادة للحسابات تنتج شيئا من التهدئة أو تحد جزئيا من تراكم القمع والمظالم والانتهاكات أو تخفض المنسوب الكارثي للاستقطاب المجتمعي على الرغم من كون عمليات «إعادة الحسابات» ليست بالغريبة على تقاليد الحكم في مصر وطبقها بصياغات مختلفة حكام مصر السابقين دون أن يعني التطبيق التمهيد لتحولات ديمقراطية حقيقية. تفرض على مصر عنفها وجهلها وبؤسها، دون تفكير في التداعيات الخطيرة لتبرير القمع والظلم وادعاء «الإنجاز» على انهيار ثقة الناس في الدولة ومؤسساتها النظامية والمدنية والبيروقراطية وعلى فقدان السلم الأهلي ومناحي المجتمع باتت محملة باليأس تارة والعزوف تارة وهيستيريا مؤيدي السلطوية تارة.

وفي كل هذا، بل وحين تفشل في السيطرة على إجرام عصابات الإرهاب في سيناء أو عندما تتزايد مؤشرات تورط أجهزتها الأمنية في قتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني ويلتزم الخطاب الرسمي بالمراوحة بين الصمت والنفي، تنظر السلطوية الحاكمة في مصر من حولها وتجد في الأوضاع المتفجرة في بلاد العرب وفي تناقضات القوى الدولية والإقليمية ما يحول دون عزلتها ويحفز البعض على التحالف معها ودعمها.
هي مقامرة تعيسة بالمواطن والمجتمع والدولة شرطها الأساسي هو تواطؤ كبار العالم والإقليم مع سلطوية قزمت مصر، مصر التي بدت في 2011 وكأنها ستقود العرب نحو تأسيس دول وطنية عادلة وديمقراطية ونحو الانعتاق من القمع والظلم الفساد.

القدس العربي

نيسان ـ نشر في 2016-02-16 الساعة 08:29

الكلمات الأكثر بحثاً