اتصل بنا
 

أبعد من ازدراء الإنسان

كاتب عربي

نيسان ـ نشر في 2016-03-03

نيسان ـ

يخطئ أى مسئول فى الدولة المصرية إذا ظن أن أزمة علاقة الشرطة بالمجتمع تحلها قبلة يطبعها وزير الداخلية على رأس أب قتلت الشرطة ابنه، أو خطبة عصماء تعلن أنه لن يسمح بإهانة أى مواطن، أو حتى تعديلات تشريعية تشدد معاقبة إهدار كرامة المصريين. والمسئول فى هذه الحالة يخطئ فى حق نفسه وفى حقنا أيضا. ذلك أنه يوهم نفسه ويخدعها، لأنه بذلك يتجاهل جوهر المشكلة فى حين أنه يتصور أنه يحلها. فى الوقت نفسه فإنه يفترض فى الناس البلاهة والغباء، بحيث تنطلى عليهم أمثال تلك الحيل بما يرطب جوانحهم ويمتص غضبهم وينسيهم أحزانهم.

فى اليوم التالى لنشر صورة وزير الداخلية وهو يقبل رأس والد ضحية الدرب الأحمر، الذى قتله أحد أمناء الشرطة تناقلت مواقع التواصل الاجتماعى صورة زوجة الدكتور عبدالله شحاتة أحد الاقتصاديين العالميين المعتبرين وهى نائمة طول الليل فى الشارع فى عز البرد أمام سجن العقرب أملا فى أن تظفر بزيارته لمدة الدقائق الثلاث المسموح بها، ولم تكن وحيدة فى ذلك، لأن صورا أخرى أظهرت حشدا للزوجات والأمهات والأطفال تكوَّم أفراده على الرصيف المجاور للسجن الرهيب عساهم أن يفوزوا بتلك الدقائق الثلاث. وفى الأسبوع ذاته كان مركز النديم لضحايا التعذيب قد أصدر تقريره عن حصاد شهر فبراير الذى وثق فيه ١١١ حالة قتل، و٨ حالات وفاة بأماكن الاحتجاز و١٥٥ حالة اختفاء قسرى و٤٤ حالة إهمال طبى بينها ٩ إصابات بالسرطان بالإضافة إلى ٧٧ حالة تعذيب.

هذه البيانات ليست سوى قطرة فى بحر الانتهاكات التى تصر الداخلية على ممارستها والتستر عليها، فتحدثنا تارة عن انها اخطاء فردية. أو تلصقها بأمناء الشرطة تارة أخرى. فى حين تطلق أبواقها كى تمارس دورها فى التجميل والتلوين، ولا تكف عن الادعاء بأن التعذيب فى أماكن الاحتجاز ليس ممنهجا. ولا يخلو الأمر من الغمز فى قناة النشطاء والمنظمات الحقوقية بدعوى ان فضح الانتهاكات يستهدف الإساءة إلى مصر وتشويه سمعتها. الأسوأ من كل ذلك أن توظف دماء شهداء الشرطة فى عملية التستر والتغطية على ما يجرى من خلال المطالبة بإسكات أصوات التنديد بالانتهاكات احتراما لأولئك الشهداء الذين ضحوا بحياتهم لأجل الدفاع عن الوطن. إذ رغم أن استشهاد أى جندى أو ضابط يدمى قلوبنا إلا أن ذلك أمر لا علاقة له باستمرار الانتهاكات، فضلا عن أن استشهادهم لا يبررها ولا يغفرها بأى حال.

إن الذين يدفنون رءوسهم فى الرمال ويتجاهلون البطش الذى تمارسه الداخلية لا يدركون مدى عمق الفجوة التى تزداد اتساعا فى مصر حينا بعد حين بين الشرطة والمجتمع، ولا ينتبهون إلى الآثار الخطيرة المترتبة على مشاعر النقمة والرغبة فى الانتقام التى تخلفها الانتهاكات فى أوساط الرأى العام. ثم انهم ينسون أنهم بممارساتهم يسيئون إلى مصر أبلغ إساءة فى العالم الخارجى، حتى أصبح سجلها فى تقارير المنظمات الحقوقية الدولية بمثابة لائحة اتهام جرى تعميمها على عواصم العالم. وقد رأينا فى حادثة تعذيب وقتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى أن أصابع الاتهام أشارت على الفور إلى مسئولية أجهزة الأمن المصرية صاحبة السوابق فى ذلك المضمار، ولم يصدق أحد خارج مصر البيانات التى صدرت فى القاهرة وبرأت الأمن من التهمة. وهو ما حول القضية إلى فضيحة عالمية لها أصداؤها فى مجالات السياحة والاستثمار.

إن عمق الأزمة يستدعى تفكيرا فى الموضوع أكثر جدية ومسئولية يضع فى الاعتبار الملاحظات التالية:

• أن المشكلة فى داخل وزارة الداخلية وليس خارجها. وعلى مسئولى الوزارة إذا ما أرادوا أن يستعيدوا ثقة الناس واحترامهم، أن يراجعوا أساليبهم ويعيدوا هيكلة مؤسستهم قبل أى شىء آخر.

• أن فكرة مراجعة التشريعات حيلة بيروقراطية سقيمة أقرب إلى إحالة الأمر إلى لجنة تقتل الموضوع وتدفنه فى حين تسوق الوهم للناس، ذلك أننا بحاجة إلى سياسات جديدة تحترم الدستور وليس إلى تشريعات جديدة تحتال عليه.

• أن الأمر أكبر من الداخلية فى الحقيقة، لأن التعذيب جريمة دولة كما قيل بحق. صحيح أن صاحب القرار فى الدولة لا يأمر بالتعذيب، لكن المؤكد أنه يستطيع إيقافه. لكنه حين يسكت عليه ويرى الذين يمارسونه يبرأون واحدا تلو الآخر، فلا تفسير لذلك سوى أنه يقبل به ويشجع على استمراره. وحين تسعى الأجهزة لإغلاق مركز «النديم» لعلاج ضحايا التعذيب أو يجرى التحقيق مع رئيس المجموعة المتحدة للمحامين لأنه حاول مع آخرين من الخبراء اقتراح قانون لوقف التعذيب، فذلك معناه أن الدولة تنحاز إلى استمرار التعذيب ولا تستهجنه.

• أن القضية لها أبعاد تتجاوز حدود الازدراء بالإنسان المصرى وإهدار كرامته، على أهميتها البالغة، لأن تأثير استمرارها بغير مواجهة جادة يؤثر على الاستقرار الذى ننشده والأمن الذى نفتقده والاستثمار الذى نتطلع إليه. وإذا غيبنا كل تلك العوامل وتجاهلناها، فينبغى ألا نفاجأ بالثمن الباهظ المترتب على ذلك.

الشروق

نيسان ـ نشر في 2016-03-03

الكلمات الأكثر بحثاً