اتصل بنا
 

حقوق السجناء.. يوم وما وراءه

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2016-03-05 الساعة 11:58

نيسان ـ

لم يكن ليومى هذا أن يحمل المزيد من المشاهد المتناقضة، ولا أن يرتب المزيد من المقارنات المريرة بشأن أحداث تلاحقت خلال ساعاته الممتدة بين مكانين، مصر والولايات المتحدة الأمريكية.

استيقظت الثلاثاء الماضى على رسائل إلكترونية قادمة من مصر، تتحدث عن إضراب بعض «سجناء العقرب» عن الطعام، بسبب حرمانهم من العديد من عناصر المعاملة الآدمية التى هى حق للقابعين وراء أسوار السجون وأماكن الاحتجاز. وبينما تتدهور الحالة الصحية لبعض السجناء المضربين وينقلون على إثر ذلك إلى وحدات للرعاية الصحية تابعة لمصلحة السجون، يتسع نطاق إضراب «سجناء العقرب» ليصبح، كما تخبرنى الرسائل المتتالية وتتداول بعض المواقع الإخبارية، إضرابا عاما احتجاجا على غياب زيارات الأهل، وصعوبة الحصول على الغذاء والدواء والكساء، والتعسف فى إجراءات الحبس الانفرادى.

أكتب على تويتر متضامنا مع السجناء المضربين ومطالبا بصون كرامة وحقوق جميع السجناء دون معايير مزدوجة، دون تمييز بين عصام سلطان وهشام جعفر وحسام السيد وأحمد سعيد وآخرين. أتشكك وأنا أكتب فى مدى قدرة الكلمات على تغيير واقع المظالم والانتهاكات الذى بات يحاصرنا فى مصر. تصلنى رسائل إضافية يراوح محتواها بين تشجيع ومطالبة بتضامن يتجاوز الكلمات التى لم يعد لى من أدوات غيرها، وبين تعبير عن اليأس من فضاء عام يدفع المصريات والمصريين إلى اختيار الجنون والعبث ويجعلهم يعزفون عن التضامن العريض مع سجناء تسلب حريتهم وتسلب حقوقهم وحقوق ذويهم.

*

مساء نفس اليوم، أذهب لأغراض المتابعة إلى مجمع انتخابى «لاختيار مرشح الانتخابات الرئاسية 2016» يعقده الحزب الديمقراطى الأمريكى فى مدينة بولاية مينسوتا الواقعة فى شمال الولايات المتحدة «إلى الشرق قليلا، على الحدود الأمريكية الكندية» والمعروف عن سكانها تأييد الأفكار التقدمية. يعقد المجمع الانتخابى للديمقراطيين بمدرسة حكومية، وغير بعيد عنه يعقد المجمع الانتخابى للجمهوريين فى مدرسة حكومية أخرى. أشاهد الصفوف الطويلة لسيدات ورجال وشباب «وبعض الأطفال» ينتظرون فى صبر لكى يتمكنوا من دخول الفصول والقاعات المدرسية التى يتوزعون عليها وفقا لأماكن السكن. أتذكر الصفوف الطويلة للناخبات والناخبين فى مصر، حين أجريت الانتخابات البرلمانية 2011، وسجلت نسب مشاركة اقتربت من 60 بالمائة.

تصل أستاذة العلوم السياسية التى اصطحبتنى إلى المجمع الانتخابى «وكنت قد ألقيت محاضرة فى جامعتها ظهيرة الثلاثاء» إلى الفصل المدرسى المخصص لحيها السكنى، تسجل هى حضورها وأبلغ أنا السيدتين المسئولتين عن تسجيل الناخبين بكونى راغب فى المتابعة فقط دون مشاركة. لا أسأل ولا يسأل غيرى عن بطاقات هوية، ويبدو جليا وجودى كغريب بين سكان حى يعرفون بعضهم البعض ويثقون على نحو جماعى فى هوية الحضور وانتماءهم الحزبى للديمقراطيين أو على الأقل رغبتهم فى التصويت فى مجمع الديمقراطيين الانتخابى.

تبدأ أعمال المجمع الانتخابى، فيحصل الحضور على بطاقات صفراء لتدوين تفضيلهم الرئاسى فإما هيلارى كلينتون أو برنى ساندرز. غير أن الأكثر إثارة فى أعمال المجمع سرعان ما يبدأ أيضا. فى ممارسة للديمقراطية المباشرة، يحق للحضور طرح تعديلات على القوانين المعمول بها فى ولاية مينسوتا، يصوت على كل تعديل مقترح وحال حصوله على أغلبية الأصوات يصعد إلى المستويات الأعلى للمجمعات الانتخابية «المقاطعة فالولاية» لكى يتبناه الحزب الديمقراطى ويطبقه إن كانت له الأغلبية فى برلمان الولاية أو منصب حاكم الولاية أو الأغلبية التشريعية والموقع التنفيذى معا، وهذا هو الحال الراهن للديمقراطيين فى الولاية التقدمية. تطرح الكثير من مقترحات التعديلات، بعضها يتعلق بمقاومة التلوث البيئى، وبعضها الآخر يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية، وبعضها الثالث يرتبط ببلاد العرب. يقترح شاب بين الحضور أن يمرر تعديل قانونى يلزم سلطات الولاية باستقبال 20 ألف لاجئ سورى بين 2016 و2020، يحصل المقترح على أصوات جميع الحاضرين. تقترح سيدة أن يمرر تعديل قانونى يلزم سلطات الولاية بسحب ما يقرب من 25 مليون دولار تستثمر فى إسرائيل، نظرا لاستمرار النشاط الاستيطانى الإسرائيلى فى الضفة الغربية والحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يحصل المقترح على أغلبية أصوات الحاضرين ومن ثم يعتمد.

ثم يأتى المجمع الانتخابى إلى مناقشة حقوق السجناء فى سياق مقترحين يقدمهما من طالب جامعى ومن أستاذ جامعى متقاعد. يقترح الطالب تعديلا قانونيا تلتزم سلطات الولاية بمقتضاه إما بإغلاق السجون التى تديرها شركات خاصة أو بتحويلها إلى الإدارة العامة فى غضون عامى 2016 و2017. يعلل الطالب لمقترحه ساردا حقائق تتعلق بسوء معاملة السجناء فى سجون «القطاع الخاص» بسبب استهدافها الربح وإهمالها لبعض متطلبات الصحة النفسية والذهنية والبدنية للسجناء، ثم يعرض لبعض الأمثلة المحددة التى تدلل على سوء المعاملة كان من بينها غياب التواجد المنتظم للإخصائيين النفسيين فى السجون. بعد الشرح الوافى، يبدأ التصويت وتكون حصيلته مواقفة جميع الحضور على المقترح.

بعد ذلك يطرح الأستاذ الجامعى المتقاعد تعديلا قانونيا آخر يتناول قضية الحقوق السياسية للسجناء. يمهد الأستاذ المتخصص فى الدراسات الدينية لطرحه بإشارات محددة إلى الزيادة المطردة فى أعداد السجناء بالنسبة إلى إجمالى سكان الولاية، إلى جرائم الغش والنصب التى تزج بكثيرين خلف الأسوار، إلى محدودية عدد السجناء الذين تورطوا فى جرائم عنف مادى أو جنسى فى مختلف سجون مينسوتا. ثم ينتقل إلى مستوى تمهيدى ثانٍ يتحدث من خلاله عن دراسات علم النفس ودراسات علم الاجتماع المعاصرة التى تقطع بأن دمج السجناء والقابعين وراء الأسوار فى الحياة المجتمعية يعد وسيلة أساسية لإعادة تأهيلهم وتمكينهم من الانفتاح الإيجابى على المجتمع بعد أن تنقضى العقوبة، وبأن ممارسة السجناء للحقوق السياسية مثل الحق فى المشاركة الانتخابية تعد خطوة جوهرية فى هذا الصدد. بعد التمهيد الأول والثانى، يقترح الأستاذ أن تعدل قوانين الولاية التى تحرم السجناء وأصحاب السوابق الجنائية من الحقوق السياسية، لكى تمكن السجناء غير المتورطين فى جرائم قتل أو عنف أو تهديد بعنف من التمتع بحقوقهم السياسية إما أثناء فترة العقوبة أو فى فترتها الأخيرة أو فى أعقابها مباشرة وفقا لتقدير سلطات الولاية، على أن لا يتضمن ذلك تنصلا من إقرار الحقوق السياسية للسجناء. يصفق الحضور بكثافة، بكل تأكيد امتنانا لدقة طرح الأستاذ للقضية ولتعاطفهم مع المبدأ العام، ثم يحصل المقترح على أصوات الجميع.

تصل أعمال المجمع الانتخابى إلى نهايتها، تعلن نتيجة التصويت، يحصل ساندرز على ما يقرب من 200 صوت بينما تتجاوز الأصوات الممنوحة لكلينتون حاجز 90 صوتا بقليل. تصل أعمال المجمع الانتخابى إلى نهايتها، ينقل الإعلام نبأ فوز ساندرز بأصوات الديمقراطيين فى ولاية مينسوتا ويفوز من المتنافسين الجمهوريين ماركو روبيو وليس الكارثة دونالد ترامب، إنها حقا ولاية تقدمية. تصل أعمال المجمع الانتخابى إلى نهايتها، بعد أن تم تمرير تعديلات قانونية مبهرة قد يجد بعضها سبيله إلى الاعتماد على مستوى الولاية.

*

تصل إلى نهايتها، بعد أن استوى التناقض مطلقا بين حقوق السجناء المهدرة ومحدودية التضامن الشعبى معهم فى مصر حتى حين يضربون جماعيا عن الطعام، احتجاجا على سوء المعاملة كما فى سجن العقرب وبين حرص الأمريكيين التقدميين على الانتصار لحقوق السجناء وصونها من الانتقاص والنظر إلى التمتع بها، كوسيلة لإعادة الانخراط فى المجتمع بل وحمايتها من الجشع الربحى للقطاع الخاص.

الشروق

نيسان ـ نشر في 2016-03-05 الساعة 11:58

الكلمات الأكثر بحثاً