تعالوا نكسر التلفزيون
ماجد عبدالهادي
إعلامي أردني
نيسان ـ نشر في 2016-03-10 الساعة 12:15
قد يتذكّر بعض الذين عاشوا طفولة مترفة، وأنا لست منهم بالطبع، كيف كانوا يكسرون ألعابهم الثمينة، ليكتشفوا ما في داخلها، فيتعرّضون للتوبيخ، وربما العقاب، على ما اقترفوا، إلا في حال كان الأهل ممن قرأوا أو سمعوا نتائج أبحاث ودراسات علميةٍ ترى، في مثل هذا السلوك عند الأطفال، مؤشراً على الذكاء، أو الفضول المحمود، في أسوأ الأحوال.
صار التلفزيون، منذ زمن بعيد، لعبة الكبار، كما الصغار. ولم يتجرأ الناس، غالباً، على كسره ليروا ما في داخله. هناك طرائف وحكايات واقعية كثيرة عن مشاهدين حطموا أجهزة التلفاز في منازلهم، غضباً من خبر فاجع، أو رد فعل على مسلسل درامي صادم، وليس بدافع الرغبة في الاكتشاف. هناك أيضاً من قذفوه جماعياً بالأحذية، في المقاهي والساحات العامة، تعبيراً عن موقف سياسي من رئيسٍ، أو ديكتاتور فاسد ظهرت صورته داخل المستطيل السحري، في يوم من أيام ربيع الثورات العربية، غير أن ذلك لم يكن سوى استثناءات عابرة، في سيرة تقول إن الشاشة الفضية تمنح الأشخاص الذين يتكرّر ظهورهم عليها هالة استثنائية، وغير مستحقة، على الأرجح، لا في ما يتعلق بحُسن أشكالهم الخارجية فحسب، وإنما على مستوى صدقية مواقفهم، وعمق آرائهم، في الوقت نفسه، فترى المعجبين بالملايين، يبحثون عن أخبارهم ويتابعونهم على مواقع الإعلام الجديد، ويقلدونهم، ويستشهدون بأقوالهم، ويسارعون إلى التقاط الصور معهم، إن صادفوهم في مكان عام، بينما يستمرئ هؤلاء اللعبة السهلة المريحة والمربحة، حتى يصير من غير المستغرب، مثلاً، أن تجد بينهم/ بينهن من تمتلك الشجاعة على التصرف بوصفها نموذج جمال خارق، وغير مسبوق، وهي تعرف كمية المساحيق والجراحات التجميلية التي تواظب على تعريض نفسها لها، ومثلها من يجرؤ على التنظير والفتوى في أشد المسائل الاجتماعية والسياسية والفكرية تعقيداً، وهو لم يقرأ كتاباً في حياته سوى كتب المنهاج المدرسي، إن قرأها.
ستجد كذلك، إذا أمعنت النظر، أو قل إذا كسرت التلفزيون، نماذج أخرى مشابهة، وأكثر من أن تُحصى على شخصياتٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ وفنيةٍ، استطاعت تسويق نفسها للمشاهدين، بألسن مطلية بمساحيق الأفكار الثورية المتشددة، ثم لم تتورّع، في لحظة الحقيقة، عن المضمضة بدم المعجبين وأهلهم وأحبائهم، لتنحاز إلى أجنداتٍ مذهبيةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ، ما انفك أصحابها ينشرون الموت والخراب في سورية والعراق ومصر، دفاعاً عن أنظمة حكم قمعية فاسدة.
يحدث هذا الخداع، للأسف، لا في زمن التلفزيون "الأسود والأبيض"، وإنما في زمن الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، ليقول إن الشاشة الصغيرة، حتى لو صار لها بُعد افتراضي ثالث أو رابع، تبقى في حقيقتها مسطحةً تماماً، وكذا يظل، في معظم الحالات، هؤلاء الذي يُسمون نجومها، سواء كانوا فنانين أو مذيعين أو محللين سياسيين.
التلفزيون، والحال تلك، جهاز يخاصم العمق، ويُظهر غير ما يُبطن، وفق ما يكشف اختبار الزبد المتدفق من شاشته. وأذكر أن الصديق العراقي، فيصل الياسري، الذي يُعتبر أحد أهم رواد الإخراج الدرامي العرب، منذ ستينيات القرن الماضي، كان كلما رآني أجهد في صنع تقرير من بغداد، عن مقدمات الغزو الأميركي البريطاني عام 2003 يقول لي مازحاً؛ "متى ستقتنع يا ماجد أن التلفزيون "قشمرة"؟"، وهي كلمة متداولة في اللهجات العراقية والخليجية بمعنى "احتيال" أو "لفلفة". وأغلب الظن أن أصلها في الفصحى يعود إلى مفردة "غشمرة" التي تعني ركوب الرأس في الحق والباطل، وإتيان الأمر من غير تثبت، وفق ما تقول معاجم اللغة العربية.
لكن الإنصاف يقتضي، في المقابل، رؤية ما على الشاشة، وما خلفها، من نماذج نقيضة، تقول إن ما ينفع الناس موجود هناك أيضا، وإن مشاهدين كثيرين يلحظونه، من دون حاجةٍ إلى أن يكسروا التلفزيون، ويقدّرونه حق قدره، حتى وإن استبدت الضحالة بأعين الجميع.