غزة واستراتيجية النواة الصلبة
د. محمد رمضان الآغا
كاتب فلسطيني
نيسان ـ نشر في 2015-03-30
جاءت زيارة الحمدالله لغزة بعد إدراك عباس ان الامور لا تسير وفقا لسيناريو الخنق المرسوم لغزة من خلال دفعها دفعا قسريا الى ما يسمى "بالخيار القاتل". فقدرة غزة على الصمود والاستمرار بعد الحرب وتشديد الحصار وحرمان الموظفين من رواتبهم والتغيرات الاقليمية؛ وفوز نتنياهو؛ وترتيبات قطر لاعادة الاعمار؛ واتصالات الاوروبيين والورقة السويسرية و قرب انعقاد القمة العربية 26 في شرم الشيخ؛ كل هذه وغيرها عوامل سرعت بالزيارة وليس كما يروجون خوفا من فصل الضفة عن غزة؛ وهم يضغطون بقوة بل ويمارسون ويكرسون فعليا عملية الفصل من خلال تمييز مشئوم بين الموظفين والمواطنين حسب انتماءاتهم واطيافهم السياسية. تماما كما حدث عند زيارته الاولى والتي لم يحركه لها دافع وطني او دافع اخلاقي او حتى انساني؛ حيث كانت الزيارة فقط لتعطيل عملية الاعمار ووقف عجلة الحياة في غزة وهي البطيئة اصلا. توقع البعض يومها ان الهدف هو الحصول على مال الاعمار المنبثق من مؤتمر اعمار غزة الذي عقد في القاهرة حينها لكن تبين ان الموضوع قد يحمل في طياته ما هو ابعد وابعد. ان عملية تعطيل الاعمار وفرض ضرائب على المساعدات والمنح القادمة الى غزة وحرمان غزة من أدنى حقوقها في كافة المجالات الخدماتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة على حكومة التوافق والمنوطة بها هي مجموعة من الجرائم التي ترتكب ضد غزة واهلها كجزء عزيز من ارض فلسطين وشعب فلسطين ايضا.
لقد صرح الاوروبيون علنا وخلال لقاءات خاصة انهم لا يعارضون تقاضي موظفي غزة رواتبهم من الحكومة ولا مانع لديهم من تلقي موظفي كافة موظفي غزة رواتبهم من المساعدات والمنح الاوروبية للشعب الفلسطيني دونما تفريق بين موظف وموظف او ذكر او انثى او اسود او ابيض او اصفر احتراما للمعايير الاوروبية؛ ويدرك الاوروبيون وغيرهم ان فلسطين من اهم عوامل الاستقرار في المنطقة والاقليم بل والعالم؛ وان المعادلة الصعبة ببساطة هي ان استقرار منطقة المتوسط تعني استقرار دولي والعكس صحيح. ان عدم استقرار غزة والضغط عليها بهذه الطريقة غير الاخلاقية وغير الانسانية هو هبوط بكل معاني القيم الانسانية الى مستوى الحضيض والذي ليس بعد قعره قعر. وهذا يعني عدم رغبة حقيقية في استقرار المنطقة وما حولها. ان المشاركين في حصار الاطفال والنساء والشيوخ لم يعودوا يعملون من وراء الكواليس بل يعملون في وضح النهار دون وازع او رادع.
ان لدى غزة قدرة فذة على الصمود والتحمل ولكن لا يعني ذلك قبولها بهذه السياسة؛ ولمن يريد ان يختبر مدى قدرتها على ذلك ليس مطلوبا منه ان يجرب؛ فمجرد قراءة حكيمة وعميقة لبيئة غزة خلال العقد الماضي يدرك اين تكمن النواة الصلبة التي تستمد غزة منها صمودها؛ بل كيف لقنت جيشا "لا يقهر" درسا في القهر لم يسبق له ان واجه قهرا مثله على مدار سبعة عقود ونيف؛ وان المقاومة قد الغت والى غير رجعة اليوم الذي كانت تصف "اسرائيل" فيه حروبها مع العرب بأنها نزهة.
لقد صمدت غزة وفي صمودها صمود لفلسطين كلها ارضا وشعبا واحرارا؛ صمدت في وجه استراتيجيات عدة ومتعاقبة؛ صمدت ضد استراتيجية الاستئصال وافشلتها؛ وصمدت ضد استراتيجية الاحتواء وافشلتها؛ وصمدت ضد استراتيجيات الحصار وافشلت معظمها وصمدت ضد حروب عدة فرد الله اعداءها على اعقابهم خاسئين خاسرين. وما كان ذلك كله الا بتوفيق من الله ومعية؛ من خلال اعداد فذ لمدارات الصمود المتعددة والمحيطة بالنواة الصلبة.
إن عدم قدرة الاحتلال وغيره على النيل من صمود غزة بعد اندحاره منها تحت ضربات المقاومة بسلاحها الاستراتيجي المبتكر منذ ذلك الوقت؛ وهو زلزلة الارض تحته من خلال "الانفاق" مما جعله يفر مذعورا مدحورا؛ بعد انهيار استراتيجية شارون ان "نتساريم كتل ابيب"؛ ان كل ذلك لا يدع مجالا للشك ان استراتيجية "النواة الصلبة" قد نجحت مرات في كسر استراتيجية شارون "النتساريمية" وقديما قالوا: السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه. فهل يدرك المتآمرون على غزة انها عصية على الكسر والانكسار معا.