اتصل بنا
 

منزل الخدع

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2016-03-12 الساعة 12:51

نيسان ـ

الرائع فى المسلسل الدرامى الأمريكى «منزل الخدع» (House of Cards)، والذى بدأ للتو عرض موسمه الرابع، هو أنه ينقل للمشاهد صورة شديدة الواقعية عن صناعة السياسة وإدارة شئون الحكم والسلطة فى مجتمع يختار مواطنوه صناع القرار عبر صناديق الانتخابات، وتحدد القواعد الدستورية والقانونية المستقرة طبيعة اختصاصاتهم وأدوارهم، وتخضع به السلطة القضائية المستقلة الجميع لإجراءات الرقابة والمساءلة والمحاسبة.

الرائع هو أن الصورة شديدة الواقعية هذه تظهر الكيفية التى تتحول بها المبادئ العظيمة للحياة الديمقراطية إلى ممارسات رمادية تجعل لصناديق المال ذات أهمية صناديق الانتخابات ولممثلى جماعات الضغط والمصالح الاقتصادية والمالية الكبرى ذات نفوذ صناع القرار المنتخبين، ممارسات رمادية تمكن السياسى المتعطش إلى السلطة من التحايل على بعض القواعد الدستورية والقانونية ومن التهرب من قبضة السلطة القضائية.

يتناول المسلسل تفاصيل حياة وعمل سياسى متعطش للسلطة، يصل به طموحه إلى عضوية الكونجرس الأمريكى ثم يدفعه إلى مقعد الرئاسة فى البيت الأبيض الذى يبلغه بخليط من «المؤامرات المتكررة» ضد منافسيه، ومن «العلاقات الجيدة» مع بعض المصالح الاقتصادية والمالية، ومن «النفوذ الإعلامى» الواسع الذى أسست له علاقات شخصية، ومن حصاد السنوات الطويلة التى أمضاها فى الحياة السياسية ومكنته من «فهم عميق» لحقائقها وللأوزان النسبية للأطراف المختلفة المشاركة فيها من أحزاب وجماعات ضغط وجماعات مصالح ونقابات ومنظمات مجتمع مدنى وكنائس ووسائل إعلام.

لا يتورع السياسى المتعطش للسلطة، والذى يؤدى دوره الممثل الرائع كيفن سبيسى، عن التحايل على القانون مرات ومرات لكى يتخلص من منافس أو بغرض فرض إرادته على معارضيه أو للحصول على دعم مالى لحملاته الانتخابية أو لتكوين شبكة من المؤيدين وتحويلهم تدريجيا بأدوات الثواب والعقاب إلى موالين ينفذون المطلوب منهم.

لا يتورع السياسى المتعطش للسلطة، والذى يظهره المسلسل كصاحب قدرات خطابية متميزة، عن مخالفة القانون وتوريط بعض مساعديه والموالين له فى أفعال إجرامية خيطها الناظم الوحيد هو ضمان استمرار صعوده ثم حماية سلطته. لا يتورع السياسى المتعطش للسلطة، والذى يبدو أن سنوات عمله الطويلة فى الكونجرس ثم فى البيت الأبيض مكنته من الإلمام الموضوعى بالكثير من قضايا السياسة الداخلية والخارجية، عن تجاهل الموضوعية والترويج للخوف والكراهية والتطرف بين الناس إذا ما استشعر أن فى ذلك سبيل بقاءه الوحيد.

*

بعبارة بديلة، يصطنع الرجل هنا «حروبه الخاصة» ضد أعداء متوهمين أو ضد إرهاب لا تحدد العصابات المسئولة عنه بدقة أو تترك دون مواجهة إلى أن تحين لحظة الاحتياج إليها وإلى جرائمها لفرض الخوف على الناس كحقيقة لا تقبل الجدال ولإقناعهم بكون السياسى المنتخب الذى أخفق فى القضاء على أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية هو الوحيد القادر على القضاء على الإرهاب. وعندها تتراجع احتمالية امتناع الناخبين عن التصويت للسياسى المتعطش للسلطة على خلفية إخفاقه فى حل الأزمات، وتتصدر الواجهة قناعة مؤداها أن مهام كدحر الأعداء والقضاء على الإرهاب تستلزم وجوده فى منصبه (برلمانيا كان أو رئاسيا) ويتعين من ثم منحه ثقة الناخبين مجددا. وتتناسى الأغلبية تدريجيا، على وقع خوفها، حقيقة زيف قوائم الأعداء والطبيعة المراوغة للحرب على الإرهاب.

لم يكن نجاح سياسى «منزل الخدع» فى الجمع بين المؤامرات والتحايل على القانون والتورط فى أعمال إجرامية متنوعة وبين الصعود المستمر من داخل نخبة الحكم والسلطة الأمريكية وصولا إلى منصب الرئيس، لم يكن هذا «النجاح» ليحدث لولا شيوع الفساد فى أوساط النخبة وفى الأوساط المعتاشة عليها. هنا جوهر رسالة أخرى للمسلسل تجسدها شخصيات كالزوجة المتعطشة هى الأخرى للسلطة والنفوذ، وكعديد السياسيين المتورطين فى علاقات مشبوهة مع المصالح الاقتصادية والمالية وجماعات الضغط لكى يضمنوا الدعم الكافى لحملاتهم الانتخابية، وكعديد المسئولين التنفيذيين الباحثين عن مكاسب مادية أو رمزية عبر إساءة استغلال المنصب العام، وكعديد الإعلاميين الراغبين فى عوائد مادية متميزة حتى حين يكون السبيل الوحيد إليها هو التخلى عن موضوعية وحيادية العمل الإعلامى أو التورط فى علاقات شخصية مشبوهة. دون هؤلاء وغيرهم، ليس فى مقدور السياسى مواصلة الصعود.

وإزاء كل ذلك، يتراجع مضمون العمل فى دوائر السلطة التشريعية والتنفيذية، وتختزل السياسات العامة المطبقة فى عموميات تجتر بانتظام، وتعجز السياسة عن حل أزمات الناس ومشكلاتهم الحقيقية. وإزاء كل ذلك، يعزف بعض الناس عن المشاركة فى الانتخابات بعد أن أدركوا التحايل الذى يحيط بها، بينما يصر البعض الآخر على المواجهة وكشف فساد النخب ويقع البعض الثالث فى مصيدة الخوف والكراهية والتطرف. هنا رسالة أخيرة لمسلسل «منزل الخدع» الذى يستحق بالفعل المشاهدة، والذى ينقل للمشاهد بواقعية شديدة كون بقاء الديمقراطية يرتبط بمحدودية نسبة المواطنين العازفين عن المشاركة وبصلابة المواطنين الذين يواجهون التحايل والفساد وباستعادة ضحايا الخوف لتوازنهم بعيدا عن هيستيريا الأعداء المتهمين والحروب على الإرهاب.

ولأن جميع هذه الاحتمالات حاضرة دوما فى الديمقراطيات وكثيرا ما تفرض نفسها فى الواقع، تظل الديمقراطية على نواقصها هى نظام الحكم الأقل سوءا.

نيسان ـ نشر في 2016-03-12 الساعة 12:51

الكلمات الأكثر بحثاً