اتصل بنا
 

منطق الأشياء

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2016-03-26 الساعة 10:51

نيسان ـ

في روايته البديعة «1ق84» (1Q84، نشرت عام 2009)، يقدم الأديب اليابانى هاروكى موراكامى وصفا لتعطل «منطق الأشياء» فى حياتنا البشرية ولاختفاء الحدود الفاصلة بين اللامعقول والعبثى وبين العقلانى والرشيد. على لسان الشخصية النسائية المحورية (أومامه)، يورد موراكامى فى خواتيم روايته عبارات مثل «لم يعد لشىء منطقه منذ ظهرين القمرين، هما سرقا المنطق من كل شىء» (صفحة 1102 من النسخة الإنجليزية)، و«يصعب جدا أن نفسر منطقيا غير المنطقى» (صفحة 1104)، «نحن نشير إلى هذا العالم بمسميات مختلفة. أسميه أنا 1ق84، بينما يسميه هو مدينة القطط. غير أن كل هذا يعنى شيئا واحدا فقط» (صفحة 1135 و1136)، «لا أعتقد إننى أستطيع أن أشرح لك كل شىء قبل أن نصل إلى هناك. ليس لدينا متسع من الوقت. ربما لن يسعفنى كل وقت هذه الدنيا لكى أشرح لك»، (صفحة 1137)، وغيرها من العبارات المشابهة الدالة على تعطل منطق الأشياء التى يأتى بها الرجل المحورى فى الرواية (تينجو كاوانا).

بالأمس انتهيت من قراءة «1ق84»، وما أن ابتعدت عن قراءة النص البديع حتى أدركت سبب جمع هذه الرواية الطويلة (1157 من القطع المتوسط) ذات اللغة والرمزية المركبتين بين تحقيق مبيعات عالمية هائلة (أكثر من مليون نسخة فى اليابان بعد مضى شهر واحد على النشر، ومئات الآلاف من النسخ باللغات الإنجليزية والإسبانية والفرنسية) وبين الحصول على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة. إنه الجنون الذى يحاصر الإنسانية، إنه اللامعقول الذى أحاط بكل جوانب حياتنا اليومية وأعجزنا عن إنقاذ المعانى والقيم الجوهرية، أنه تعطل «منطق الأشياء» الذى يصفه مواكامى وينطبق على واقع العالم فى القرن الحادى والعشرين؛ هذا هو سبب نجاح الرواية.

موراكامى هو فرانتس كافكا معاصر. ولا معقول روايته يماثل لا معقول روايات كافكا «التحول» و«الحكم» و«فى مستعمرة العقاب»، ويكتسب قيمته الإنسانية والأدبية من تقاطعه مع الجنون الذى يحاصرنا. كان جنون القرن العشرين، بحربيه العالميتين وبجرائم الإبادة التى ارتكبها الحكم النازى وبالقنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على اليابان وبالتسابق إلى أسلحة الدمار الشامل وبحروب الإبادة فى فيتنام ومواقع أخرى، هو دافع العديد من النخب الفكرية والأدبية لاكتشاف كافكا بعد وفاته (1924) وحافز الكثير من دور النشر العالمية لترجمة أعماله من اللغة الألمانية إلى لغات أخرى. واليوم، يدفع جنون القرن الحادى والعشرين إلى اكتشاف موراكامى وقراءة أعماله.

*

البعض منا يحاول إنقاذ المعانى والقيم الجوهرية للإنسانية ويوظفها لمقاومة الجنون واللامعقول والعبث فى عالم يتعطل به منطق الأشياء. عالم تتراكم به ثروات الأغنياء، ويتعمق به فقر الفقراء. عالم يتواصل إخفاقه فى القضاء على أوبئة وأمراض قاتلة وفى وضع نهاية لوفاة الأطفال وفى التخلص من المجاعات، على الرغم من التقدم العلمى والتكنولوجى المذهل وفائض الموارد فى بلاد الأغنياء. عالم يدمر سكانه النظام الإيكولوجى الذى يمكنهم من الحياة، بينما تتجادل حكوماتهم ببدائية بشأن نسب التلوث المقبولة وحصص التلويث المقننة. عالم تعلن قواه الكبرى منذ 2001 عن حرب على الإرهاب لا هوادة بها، وفى 2016 تستمر عصابات الإرهاب فى ارتكاب جرائمها التى لا هوادة بها ولا حدود لها.

عالم يتنصل من مناهضة التمييز على أساس الدين والمذهب والعرق والرأى ويحتفى بحكام وحكومات وبسياسيين وأحزاب يستندون إلى رؤى تمييزية ويروجون لكراهية الآخر، من حاكم الطائفة العلوية إلى الحكومات السنية التى تواجه الدولة الشيعية وأعوانها ومن رجل الأعمال الذى يريد منع المسلمين من قدوم الولايات المتحدة وبناء جدار للفصل العنصرى بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب إلى أحزاب رجال الأعمال فى بلاد العرب التى تمعن فى تأييد مظالم وانتهاكات الحكومات السلطوية وتتماهى مع تمييزها ضد أصحاب الرأى الآخر.

البعض منا يحاول إنقاذ المعانى والقيم الجوهرية للإنسانية إزاء كل صنوف الجنون واللامعقول والعبث هذه. غير أن «منطق الأشياء» الذى يبحث عنه سرعان ما ينقلب على أعقابه خاسئا وهو حسير.

فقد أوشكت الأفكار الكبرى على الانهيار التام. تنهار الفكرة الديمقراطية على وقع سيطرة من «معهم» على العمليات الانتخابية، ونزوع الحكومات المنتخبة إلى انتهاك الحقوق والحريات وإخضاع مواطنيها للتنصت الشامل باستدعاء الخوف من العنف وخطر الإرهاب، وصعود النازيين الجدد والعنصريين الجدد والمجانين الجدد من دونالد ترامب إلى فراوكه بترى (المسئولة الأولى فى الحركة اليمينية المتطرفة «البديل لألمانيا» التى طالبت الشرطة الألمانية بإطلاق النار على اللاجئين الذين يحاولون اختراق الحدود). تنهار أفكار المساواة والعدالة ذات الخلفية اليسارية إما على وقع انحسار الحكومات التى تطبقها، أو بسبب فشلها التنموى الذريع، أو بسبب تورط نخبها فى فضائح فساد واستغلال منصب كارثية. تنهار جاذبية الالتزام العالمى بحق الشعوب فى تقرير مصائرها إن لتحايل الأقوياء على حق الضعفاء فى تقرير المصير من الشعب الفلسطينى إلى الشعب الكردى، أو لتنصل الأقوياء من حق الشعوب المغلوبة على أمرها فى طلب الحرية كما فى سوريا واليمن وغيرهما. تنهار الإيديولوجيات الدينية التى استغلتها حكومات مستبدة وسلطوية لتمرير ظلمها وجرائمها، وتشبثت المؤسسات التى تمثلها برفض الاعتراف بالحقوق المتساوية للناس بغض النظر عن النوع أو بمعزل عن التفضيلات الجنسية (حقوق المثليين). تنهار، أخيرا، الفكرة الوطنية التى سعت شعوبنا فى بلاد العرب خلال السنوات الماضية إلى إنقاذها بطلب الحرية وبالبحث عن عقد اجتماعى جديد يتجاوز حكم الفرد واستبداد الأجهزة الأمنية ويؤسس لدولة وطنية عادلة وديمقراطية، وانتهى بنا الحال إلى الاعتذار عن المحاولة الديمقراطية أو الانزلاق إلى غياهب حروب العنف والإرهاب وحروب الكل ضد الكل.

*

ولأن «منطق الأشياء» سرعان ما يرتد خاسئا وهو حسير، ليس بمستغرب أن يكتشف الكثير منا وعبر الحدود الفاصلة بين اللغات والثقافات موراكامى ورواياته. وليس بمستغرب أيضا أن يدرك نفر يتزايد يوميا من المهتمين بشئون مجتمعاتهم وشئون الإنسانية خطأ «أن نفسر منطقيا غير المنطقى» أو أن نقاوم أن «القمرين فى عالم 1ق84 سرقا المنطق» من كل ما يحيط بنا.

الشروق

نيسان ـ نشر في 2016-03-26 الساعة 10:51

الكلمات الأكثر بحثاً