الماء والنار في العراق
محمد علي فرحات
كاتب
نيسان ـ نشر في 2016-04-07 الساعة 12:02
الصدمة التي أحدثها اعتصام مقتدى الصدر ومؤيديه حول المنطقة الخضراء في بغداد، لم تصل بعد إلى نتيجة. كل ما في الأمر أن رئيس الوزراء حيدر العبادي أودع البرلمان أسماء مقترحة لحكومة تكنوقراط تقود البلاد بعيداً من فساد ظلّل بسواده معظم الإدارة العراقية.
الأسماء الوديعة يؤجل البرلمان دراستها، في مسعى لإدخالها في متاهة المصالح التي تحكم الحياة السياسية العراقية، فكيف لأكثرية برلمانية أن ترتضي نزع تمثيلها الحكومي؟ ذلك يحتاج إلى وعي بالوهدة العميقة التي سقط فيها الحكم العراقي، وعي يفتقده معظم النواب المتحلقين حول هذا الزعيم أو ذاك، حول هذه المرجعية أو تلك.
استطاع الإقليم العربي تحمل انهيار دولة صغيرة اسمها لبنان، فطوى 15 عاماً من الحرب الأهلية عبر مؤتمر الطائف القائم على المصالحة والاعتراف، لكنه يعجز عن طي صفحة الانهيارات في دولة شبه مركزية هي العراق، خصوصاً أن الصراعات هناك متصلة بمصالح إقليمية ودولية كبرى يصعب اتفاقها على مشتركات تجد تعبيرها في مصالحة وطنية عراقية. لا بد إذاً من الحرب بالواسطة، حرب باردة في البرلمان العراقي وأخرى ساخنة بدعوى القضاء على «داعش»، فيما هي تشتعل بين الجماعات ذات المصلحة في الخلاص من شبح البغدادي.
الأمور سائرة إلى مزيد من التعقيد وستعود مبادرة مقتدى الصدر إلى المربع الأول. لن يتطهّر الجسم السياسي العراقي ذاتياً، فضلاً عن أنه يرفض تناول أدوية داخلية أو خارجية. يقول أصدقاء أردنيون أن موظفين عراقيين كباراً وصلوا إلى عمّان حاملين أكياساً من العملة الخضراء خوفاً من محاسبة يلوّح بها المتظاهرون أمام المنطقة الخضراء. ويبدو أن هؤلاء الموظفين تعجّلوا الأمر، فلا محاسبة ولا من يحاسب.
لم يتوصّل العراقيون إلى مشروع وطني، لذلك يبدو الحكم مشكلة أكثر مما هو سبيل إلى حل المشاكل. قيل في هذا المجال أن «حزب الدعوة» الحاكم، وهو نسخة شيعية من «الإخوان المسلمين» استطاع جمع الماء والنار، فوزّع ولاءه على الولايات المتحدة وإيران، بمقدار قَبِلَهُ الطرفان. لكن حزباً دينياً مثل «الدعوة» سيجد نفسه وقد انزلق نحو الطرف الإيراني بعيداً من واشنطن التي أتت به إلى الحكم إثر الضربة الأميركية لنظام الرئيس الراحل صدام حسين.
المشروع الوطني العراقي سيصطدم حكماً بالنفوذ الإيراني، خصوصاً أن طهران تواطأت مع حزب «الدعوة» لزيادة نفوذها في العراق، حتى أن نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، بدا في كثير من الأحيان مفوضاً إيرانياً في بغداد لا رئيس حكومة، ولم تقبل طهران تغييره إلاّ بعد شدّ وجذب سياسيين، ترافقا مع سيطرة «داعش» على مساحات كبيرة من العراق وإخراجها من سلطة بغداد.
إلى مزيد من التعقيد في العراق، وظهور مشروعين يتصارعان، واحد إيراني وآخر مع تقليم أظافر النفوذ الإيراني. وربما كان اعتصام مقتدى الصدر هو الإعلان عن صراع المشروعين، بعدما فقد الاتفاق النووي مع إيران حرارته، وبدأت واشنطن التدقيق مجدداً في سلوك طهران السياسي والاقتصادي.
وإذا كانت إيران تشكل طرفاً في الصراع فإن الطرف الثاني متعدد الرؤوس وفي مقدمها الولايات المتحدة. لا أحد يذكر وطنية عراقية تجد مصلحتها في حد أدنى من استقلالية القرار، وأن تفرض على العالم أولويات عراقية، في مقدمها الحرب على «داعش»، والتخفف من أحزاب دينية قائمة على وهم السياسة العابرة الأوطان، بما يعني تجميل التبعيّة.
المشهد العراقي الراهن ليس مؤهلاً لمحاربة «داعش»: عثرات في الفلوجة ومشاكل أساسية في خطط تحرير نينوى سببها الخلاف على «الحشد الشعبي». أما الأكراد فلهم ملفهم الخاص. أزمة رئاسة الأقاليم والضائقة الاقتصادية نتيجة عجز بغداد المالي.
وفي ملاحظة اجتماعية عابرة أن العراقيين كأفراد مهيأون للحضور في واجهة العصر، لكنهم كجماعات غارقون في التاريخ مثل شجرة لا تستطيع تغيير مكانها أو زمانها.
ما يستحضر هذه الملاحظة غرق العراقيين في تعقيدات حاضرهم الأشبه بتعقيدات ماضيهم. هذا بلد سكنته قبائل عربية أسدلت الستار على ماضيه، ثم انصرفت إلى صراعاتها بعناوين تقارب المقدس في أحيان كثيرة لكنّ جوهرها قبلي بامتياز.
والآن يتحرك في المشهد العراقي صراع شيعي– سنّي وآخر عربي – كردي وثالث شيعي – شيعي. وخلف الثلاثة يجثم الصراع العراقي – الإيراني.
الحياة