اتصل بنا
 

محنة الحقيقة والعدالة

كاتب عربي

نيسان ـ نشر في 2016-05-04 الساعة 19:29

الشرطة في قضية قتل 96 شخصا في مباراة كرة القدم في بريطانيا قبل 27 عامًا.
نيسان ـ

أن تصدر محكمة بريطانية حكمها فى قضية قتل ٩٦ شخصا وقعت قبل ٢٧ عاما، فذلك لا يفاجئنا فى مصر كثيرا. أما أن تدين المحكمة الشرطة وتحملها المسئولية عما جرى، فتلك فى زماننا من علامات الساعة الصغرى، فالأخير ليس خبرا لأننا سباقون فيه، أما إدانة الشرطة وتوجيه الاتهام إلى قادتها، فتلك مفاجأة أقرب إلى المعجزة التى يصعب على أمثالنا تصديقها، ولأن الأمر كذلك فقصته تستحق أن تروى.

وقعت الواقعة فى ١٥ أبريل من عام ١٩٨٩، فى مقاطعة هيلز بورو بشمال إنجلترا، حيث كان مقررا إقامة مباراة لكرة القدم بين فريقى ليفربول وتوتنجهام ولأنها كانت تنافسا على الدور قبل النهائى لكأس الاتحاد الإنجليزى، فقد اكتسبت أهمية خاصة بحيث توافد عليها ألوف المشاهدين. وقبل دقائق من بدء المباراة انفتح أحد أبواب الملعب وتدافع عليه نحو ألفى شخص، الأمر الذى أحدث هرجا هائلا أدى إلى مقتل ٩٦ شخصا وإصابة ٨٠٠ آخرين نقلوا إلى المستشفيات. وهو ما أحدث صدمة هزت المجتمع البريطانى، الذى لم يعرف تاريخه حادثا مماثلا. بعد أربعة أيام من وقوع الكارثة فى «٤/١٩» خرجت صحيفة «ذا صن» بعنوان كبير على صفحتها الأولى فى كلمة واحدة هى: الحقيقة.
وتحته تقرير ذكر أن مشجعى نادى ليفربول هم المسئولون عما جرى لأنهم جاءوا لتشجيع ناديهم وبينهم سكارى حرضوا غيرهم على فتح باب الملعب الأمر الذى تسبب فى وقوع الكارثة، ونقلت الصحيفة هذه الشهادة على لسان أحد كبار ضباط الشرطة ونائب محلى له، إلا أن ذلك لم يقنع أهالى الضحايا، الذين تضامنت معهم منظمات المجتمع المدنى فشكلوا معا مجموعة عمل مستقلة لتقصى حقيقة ما جرى. ورفعت المجموعة دعوى فى عام ١٩٨٩ بعد ٩ سنوات ضد اثنين من قادة الشرطة المحلية اتهمتهما بالضلوع فى المسئولية عن الكارثة، إلا أن القضاء برأ أحدهما ولم يجد دليلا يدين الثانى، وعام ٢٠٠٩ بعد عشرين عاما من الحادث نجحت المجموعة فى الحصول على تصريح بالإطلاع على كل أوراق القضية. وبعد ثلاث سنوات من الدراسة والتحرى وجد فريق الدفاع أن ثمة تلاعبا من جانب الشرطة فى الأدلة وأن ٤١ شخصا من القتلى كان يمكن انقاذ حياتهم لو أنهم تلقوا العلاج المناسب. فقدمت القرائن والأدلة الجديدة فى تقرير إلى المحكمة العليا التى أعادت النظر فى القضية فى عام ٢٠١٢. وخلال ٤ سنوات، أعيدت دراسة كل تقارير وأوراق القضية (٤٠٠ ألف ورقة) وتمت مناقشة ٤٠٠ شاهد، ثم أعلن المحلفون فى الأسبوع الماضى ٤/٢٦ ان المشجعين الـ٩٦ قتلوا دون وجه حق، إذن تبين ان الاتهام الذى وجه إلى مشجعى ليفربول لم يكن صحيحا، وأن الشرطة ظلت تخفى الأدلة وتتلاعب بها طوال ٢٧ عاما، إذ اعترف الضابط المسئول عن حراسة الملعب بأنه روج لكذبة «مشينة» لأنه هو الذى أمر بفتح الباب الذى اندفعت منه الجموع وتسبب فى الكارثة، وقد تقاعد ذلك الضابط الآن وصار فى عمر واحد وسبعين عاما، أما محرر صحيفة «ذا صن» التى نشرت ذلك الادعاء فى حينه وحملت مشجعى ليفربول المسئولة عما جرى، فقد صرح لهيئة الإذاعة البريطانية بأنه يشعر بالاشمئزاز لاكتشافه أن الشرطة ظلت تكذب طول الوقت.

قرار المحلفين أحدث دويه فى بريطانيا، فأشاد به رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذى حيا فى تغريدته نشطاء هيلزبورو فى سعيهم الحثيث للوصول إلى الحقيقة طوال ٢٧ عاما، مضيفا أن يوم إعلان الحكم هو يوم تحقيق العدالة. كما أنه تحدث أمام البرلمان قائلا إن البحث عن العدالة فى هذه القضية قوبل بالتشويش والعداء عوضا عن التضامن والتشجيع، أما وزيرة الداخلية فقالت إن التحقيق الجنائى سوف يستمر لتحديد الاتهامات الموجهة إلى قادة الشرطة المسئولين عن الحادث وهو ما يفترض أن يتم قبل نهاية العام الحالى، وستركز حول الظروف التى أحاطت به سواء فيما خص القتل الخطأ أو تحويل مجرى العدالة والحنث باليمين.

قبل توجيه الاتهام الجنائى للمسئولين عن الكارثة قدم مفوض شرطة يوركشير اعتذاره إلى عائلات الضحايا، مع ذلك فإنه أقيل من منصبه فى اليوم التالى لإعلان قرار المحلفين، وقال الرئيس المشرف على الشرطة المحلية إنه لم يكن أمامه أى خيار بعدما فقد عامة الناس ثقتهم فى الشرطة حين انفضح أسلوب تعاملها مع الكارثة.

قصدت التفصيل فى وقائع القصة ليس لما تحفل به من تشويق إثارة، وليس فقط من باب التعبير عن الغيرة والحسد، ولكن أيضا للدروس والعبرة فيها، ذلك أنه حين توحد الناس حول الهدف الذى تبنته منظمات المجتمع المدنى، فإن أجواء الحرية المتاحة مكنت ذلك الفريق من أن يجرى تحقيقا مستقلا طوال ٢٧ عاما، نجح من خلاله فى كشف تلاعب الشرطة بالأدلة والتستر على تقاعسها، ثم تكفل القضاء المستقل بإعلان الحقيقة والعدالة فى نهاية المطاف.

لدينا فى مصر قائمة طويلة لكوارث أكبر وأفدح تتابعت منذ قامت الثورة فى عام ٢٠١١، وقعت فى الملاعب وفى ساحات الصراع السياسى، وفى حالة استثنائية وحيدة عرفنا بعض الحقيقة فى تقرير لجنة تقصى حقائق احداث الثورة التى رأسها المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض الذى حمل الشرطة صراحة المسئولية عن قتل المتظاهرين، إلا أن ذلك الاستثناء لم يتكرر، حيث قامت الشرطة وأذرعها الأمنية بمحو التقرير ودفنه، وتولت مهمة إعادة كتابة تاريخ المرحلة وما تلاها على نحو برأ رجالها من كل الكوارث التى وقعت. وظل ذلك وجه الشبه الوحيد بين ما حدث عندنا وما وقع فى بريطانيا. ومنذ ذلك الحين أدركنا أن للحقيقة بابا واحدا تمسك الشرطة بمفاتيحه. فقرارها نهائى وكلمتها لا ترد وذاتها مصونة لا تمس. الأمر الذى أحدث انفصالا بين الحقيقة والعدالة، لذلك يفاجئنا ما حدث فى بريطانيا حتى صرنا بحاجة لوقت طويل لكى نستوعبه، ووقت أطول ـــ لا يعرف أجله ــ لكى نحتذيه.

الشروق

نيسان ـ نشر في 2016-05-04 الساعة 19:29


رأي: فهمي الهويدي كاتب عربي

الكلمات الأكثر بحثاً