اتصل بنا
 

مدن وغرباء

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2016-05-11 الساعة 13:27

بودابست: جاذبية الإفصاح السريع والإبقاء على الأسرار للغرباء في مدينة تتفاوت ظروف المعيشة والسكنية لأهلها.
نيسان ـ

للمدن الكبيرة جاذبية الإفصاح السريع للغرباء عن بعض حقائق حياة سكانها، وجاذبية الإبقاء على حقائق أخرى كأسرار لا يدرك كنهها الغريب.

فى بودابست، العاصمة المجرية، يلقى الغريب القادر ماليا نفسه محاطا بسوق رأسمالى نهم بضاعته الخدمات السياحية ومختلف أنواع المنتجات الاستهلاكية. وغير بعيد عن تجمعات السائحين الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين والصينيين، تتواجد تجمعات أخرى لغرباء إما مرغوب فيهم بشروط أو غير مرغوب فيهم أبدا.

فالمدينة الجميلة يأتيها الكثير من الباحثين عن فرص للعمل من الجوار المباشر فى أوروبا الوسطى والشرقية ومن منطقة البلقان، وهؤلاء يربط بينهم وبين أهل البلاد شىء من التاريخ المشترك وشىء من التقارب الثقافى يجعلهم محل قبول شعبى. ولبعض القادمين من الجوار الأوروبى بحثا عن عمل حقوق تتساوى مع المجريين تضمنها قوانين الاتحاد الأوروبى. غير أن بودابست تأتيها أيضا مجموعات من المهاجرين غير الشرعيين وطالبى اللجوء والمهاجرين الشرعيين، وهم بين عرب وأفارقة وأفغان ومواطنى بلدان أخرى إما تعانى من الحروب الأهلية وانتشار العنف أو ترتفع بها معدلات الفقر والبطالة. لا قبول شعبيا عاما لتواجد هؤلاء الغرباء غير القادرين وغير الأوروبيين، وتعمل الحكومة المجرية (حكومة يمينية) على خفض أعدادهم وتحارب إتاحة فرص عمل وإقامة لهم.

فى بودابست، يلقى الغريب نفسه أيضا محاطا بأهل بلاد تتفاوت ظروفهم المعيشية وأوضاع مناطقهم السكنية بفداحة. عجائز وفقراء طردهم السوق الرأسمالى إلى خارجه دون ضمانات اجتماعية أو صحية، وعمال فى القطاعات الصناعية التى كانت تقليدية كـ(الحديد والصلب) فقدوا أماكن العمل بعد انهيار النظام الشيوعى فى ١٩٨٩ ودفعوا إلى قطاعات خدمية لا توفر رواتبها سوى ما يكفى بالكاد لحياة ارتفعت بها أسعار جميع الخدمات، وعمال وموظفون من متوسطى العمر والشباب، وهؤلاء جميعا يعيشون فى مجمعات سكنية متهالكة (تتشابه مع بعض المساكن الشعبية فى مصر) كانت فى الأصل مخصصة للطبقة العاملة وبنيت فى الفترة الشيوعية (١٩٤٥ــ١٩٨٩). وأغنياء وطبقة وسطى ومهنيون من متوسطى العمر والشباب يتمتعون بمستويات دخول تمكنهم من السكن (تملكا أو إيجارا) فى بنايات جميلة شيدت فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أو فى تجمعات سكنية جديدة على التلال المحيطة بالمدينة حيث تكثر المساحات الخضراء. الأغنياء والمنتمون للطبقة الوسطى والمهنيون هم الذين يحضرون أيضا بكثافة فى مناطق الخدمات السياحية وأحياء بودابست التى تسمع بها أصداء اللغات الأجنبية قبل اللغة المجرية.

لا يحتاج الغريب لعظيم مجهود لا لإدراك هذه الحقائق، ولا لمتابعة تداعياتها على أهل البلاد ومسارات حياتهم اليومية. غير أن الغريب لن ينجح فى تفسير الطبيعة الهادئة والمسالمة لبودابست (وكأنها خليط من باريس وفيينا دون توترات باريس وسكون فيينا) على الرغم من التركيبة المجتمعية القابلة لتوليد التوتر والصراع بين من يملكون ومن لا يملكون، بين المرحب بهم والمرفوضين. هل هى قناعة عامة بكون التفاوتات الحادة بين الطبقات والفئات المتنوعة تمثل حقيقة كبرى للسوق الرأسمالى الذى لم يعد له من بديل؟ هل هى ثقة الناس فى قدرة السوق الرأسمالى على التحسين التدريجى لأوضاع الفقراء ومحدودى الدخل كلما تصاعدت معدلات الإنجاز الاقتصادى؟ هل هى ذاكرة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية فى الفترة الشيوعية، وإصرار أغلبية المجريين على التمسك باقتصاد السوق الرأسمالى وبالتنظيم الديمقراطى حتى حين تكون النتائج تهميش الفقراء والعجائز والضعفاء اقتصاديا وسيطرة الشعبوية (مع حكومة اليمين الحالية) سياسيا؟ لا أدرى.

الشروق

نيسان ـ نشر في 2016-05-11 الساعة 13:27


رأي: عمرو حمزاوي كاتب مصري

الكلمات الأكثر بحثاً