اتصل بنا
 

من جرجي زيدان إلى ليليان داود

كاتب اردني مغترب

نيسان ـ نشر في 2016-07-03 الساعة 14:26

ترحيل الإعلامية اللبنانية يثير استياء الكتاب والإعلاميين المصريين ويكشف عن تراجع قدرة مصر على تمصير الوافدين، ويذكر بأهمية مصر في جذب الفنانين العرب في الماضي، ويشير إلى أن قصة ليليان داود لا تعدو أن تكون سلوك جهاز أمني مريض بالغطرسة ولا يحترم رعاياه المصريين.
نيسان ـ

حسناً فعل كتّاب وإعلاميون مصريون ليسوا قليلين، في استفظاعهم واقعة ترحيل الإعلامية اللبنانية، ليليان داود، بفظاظةٍ وشراسةٍ مستنكرتيْن، من القاهرة إلى بيروت، أنهم جاؤوا على ما تعرفه مصر منذ سنوات من "تحسّبٍ" تجاه الإعلاميين والكتاب العرب الذين يعملون ويقيمون فيها، أو يتطلعون إلى إقامةٍ وعملٍ فيها. هناك تراجعٌ ظاهر في قدرة مصر على "تمصير الوافدين"، بتعبير الصديق سيد محمود، بعد زمن ذهبي بعيد في القاهرة والإسكندرية في هذا الأمر. ليس في وسع مصر أن تعرف، الآن، فناناً شعبياً في عاميّتها، من أرومةٍ وافدة، مثل بيرم التونسي (1893- 1961). لم تعد ذلك البلد العربي الذي يصبح فيه اللبناني خليل مطران (1872- 1949)، شاعر القطرين، وقد حاز لقبه هذا في إقامته في مصر. وأعتقُ منهما، ثمّة القادم من جبل لبنان، جرجي زيدان (1861- 1914)، وأدار في مقامه القاهري مجلة المقتطف، بعد عمله في جريدة الزمان، وقبل إصداره في 1892 مجلة الهلال العتيدة الباقية. ليست مصر، منذ انعطافتها الساداتية، هي التي يمكن لفلسطينيّ اسمه ناصر الدين النشاشيبي (1920 – 2013)، أن يكون رئيس تحرير جريدة الجمهورية. وبالطبع، ليست التي في وسع أخويْن لبنانيّين، هما بشارة وسليم تقلا، أن يؤسّسا "الأهرام"، الجريدة ذات الشهرة المعلومة.
ولمّا كان يُقال، عن صحةٍ ووجاهةٍ مؤكّدتين، إن على الفنان العربي، إن أراد أن يصير نجماً في الغناء والتمثيل، أن يجد فرصته في مصر، فإنه قولٌ لم يعد صحيحاً تماماً، منذ صار يغيب عن هذا البلد ما كان عليه لما استقبل الأخوين السوريّين أسمهان وفريد الأطرش، والفلسطيني عبد السلام النابلسي، وقبلهم الأخويْن الفلسطينيين إبراهيم وبدر لاما اللذيْن تجعل مراجع مختصة فيلمهما "قبلة في الصحراء" (1927) أول فيلم روائي عربي. وفي زمنٍ تال، ثمّة أجيالٌ من فنانين عرب، جادت عليهم مصر، بلد التعدّد والفنون والتنوع واحترام الآخر، بالنجومية والتألق والحضور الجميل. .. ولكن، لماذا هذا السفر إلى ذلك الأرشيف، وقصة ليليان داود لا تعدو أن تكون سلوك جهاز أمني، مريضٍ بغطرسةٍ سخيفة، لا يحترم، في تقاليده وممارساته، "رعاياه" المصريين، واستهدف هذه المذيعة بإجراءٍ مرذول، استنكره مصريون كثيرون، ومالأه كثيرون؟
تضطرّنا لبنانيّة المذيعة المتزوجة سابقاً من كاتب مصري، والأم لطفلة مصرية، والمقيمة والعاملة في القاهرة منذ خمس سنوات، تضطرّنا إلى بعض الحديث عن العلاقة المضطربة، وغير الودودة، بين مصر، دولةً وكياناً، مع الوافد، العربي ثم الأحنبي، إذا ما كان من أهل الإعلام والكتابة والثقافة، واعتباره غالباً موضع ريبة واشتباه بالعمالة (ثمّة من أشاعوا أن جوليو ريجيني رجل مخابرات أجنبية). وليليان داود من كتيبة "30 يونيو" وممن أبهجتهم وثبة عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، غير أن ذلك لا يبيح لها أن تتجاوز ما عليها أن تكون عليه، فلا يجوز أن تخوض في أمر هذا المعتقل السياسي أو ذاك الناشط الحقوقي أو في تقصير وزير أو في سلوك مسؤول. عليها أن لا تنسى أنها ضيفة، وإنْ تعمل في فضائيةٍ مصرية، بل وإن كانت محض مذيعة، يُعدّ لها ما تقول وتسأل وتحكي وتحاور وتناقش. أرادت أجهزة النظام الحاكم في مصر، في ترحيل ليليان دواد من منزلها إلى المطار، بعد ساعاتٍ من استقالتها (؟) من عملها، وبكيفيّةٍ بالغة الخشونة، ومن دون احترامٍ لأي مقتضيات أو لأي أخلاق، إيصال رسالة واضحة المحتوى، موجزها أنه غير مأذونٍ لأي وافدٍ مقيم في مصر، أياً كان مستوى تطبيله لنظام "3 يوليو"، وأياً كان منسوب مقته "الإخوان المسلمين"، أن يعزف على غير النغمة المطلوبة، وإلا فأرض الله واسعة.
هذه ليست عقلية ضابط في وزارة الداخلية أو المخابرات المصريتين، وإنما هي الذهنية الحاكمة في مصر، (وفي كل البلاد العربية)، ولها نفوذها الذي تعزّز منذ عقود. ومع التسليم ببديهية أن الزمن غير الزمن، وأن البلاد والعباد ليسا على تلك الأحوال التي كانت إبّان جرجي زيدان والأخوين لاما والأخوين تقلا والأخوين أسمهان وفريد الأطرش، فإن ما جرى مع الزميلة ليليان دواد يبيح لنا التأسّي على مصر التي كانت، والباقية في جوانح كل عربي.

نيسان ـ نشر في 2016-07-03 الساعة 14:26


رأي: معن البياري كاتب اردني مغترب

الكلمات الأكثر بحثاً