ليلة البحث عن اردوغان ومآلات المستقبل
د. زيد النوايسة
أكاديمي وكاتب
نيسان ـ نشر في 2016-07-18 الساعة 23:51
عدم توفر الدعم العسكري الكافي، إلا أنها كانت محاولة لإطاحة بالنظام السياسي في تركيا، ولم تكن مدعومة بالجدية والتجهيزات اللازمة لنجاحها، ولم تتبع الإجراءات اللازمة لإنقاذ النظام السياسي، وكانت تستند إلى عسكريين متقاعدين وعاملين برتبة منخفضة، ولم تحظ بدعم القيادة العسكرية والاستخباراتية في تركيا.
ستظل ليلة الجمعة 15-16/7/2016 من أطول الليالي وأغربها في تاريخ تركيا الحديث وسنضطر للانتظار فترة زمنية أطول حتى نقرأ الرواية الحقيقية والدقيقة أو على الأقل الأقرب للوقائع التي اتسم بها الحدث التركي الأغرب والذي لا يشبه في حيثياته الانقلابات المعتادة سواء في العالم العربي أو العالم الثالث، ولعله نموذج جديد من الانقلابات التي لا تحمل في تفاصيلها شروط النجاح، بل أن بذور الفشل والإخفاق هي التي جعلت منه مجرد مغامرة مراهقة لا ترقى لأن تكو أكثر من تمرد لمجموعه من العسكريين المتقاعدين وعلى رأسهم قائد سلاح الجو السابق الجنرال آقين أزترك، ساعده في ذلك مجموعه من العسكريين العاملين الأقل رتبة (عقيد فما دون)، وهذا مؤشر قاطع أن هذا التحرك لم يكن يملك أي تغطية عسكرية فاعلة من قيادة الأركان أو كبار ضباط الجيش والاستخبارات، وبهذا المعنى يمكن القول أن محاولة الانقلاب الفاشلة لم تكن فقط انقلاباً على القيادة السياسية بل أيضاً على المنظومة العسكرية.
الأخبار الواردة تقول أن العملية بدأت باحتجاز رئيس الأركان وباستخدام أدوات عسكرية محدودة ومتواضعة لا يمكن ان توفر النجاح لأبسط انقلاب عسكري ولو في دول متواضعة الإمكانيات وليس دولة بحجم تركيا، بالإضافة للعامل المهم وهو افتقار الجدية كما يبدو فأي انقلاب عسكري أو إطاحة بنظام سياسي لا تبدأ من اعتقال رأس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء ووضعهم قيد الإقامة الجبرية والسيطرة على وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي واختيار التوقيت الزمني هي فاشلة حكماً وهذا لم يحدث في الحالة التركية مطلقاً بل على العكس بقي الرئيس حراً طليقاً وبقي يلدريم رئيس الوزراء يتابع الموقف من مكتبه وبقيت وسائل التواصل الاجتماعي بمتناول الجميع ليستخدمها لاحقاً الرئيس أردوغان في دعوة الناس للخروج للشارع بعد ان استطاعت الشرطة والاستخبارات التركية إفشال مشروع الانقلاب والمعروف عن هذان الجهازين أنهما الأقرب لحزب التقدم والعدالة الحاكم، ويكاد يقارب من ناحية الاعداد والتجهيزات الجيش التركي النظامي وهما الذراع العسكري والأمني الفعلي للحزب.
بهذا المعنى يمكن القول ان محاولة الانقلاب على حزب التقدم والعدالة وان كانت فاشلة بفعل عدم اكتمال شروط نجاحها والتفاف الشعب والأحزاب بما فيها المعارضة حول الحكومة المنتخبة ديمقراطياً، الا أن هذا لا يعني أنها ليست تعبير عن حالة رفض لدى المؤسسة العسكرية لسياسات أردوغان سواء الداخلية أو الخارجية إذ ما زال جزء من المؤسسة العسكرية بالرغم من وجود قيادة متناغمة مع حزب التقدم والعدالة فهناك جزءاً كبيرا من أفرادها يؤمن بضرورة حماية علمانية الدولة ورفض استئثار أروغان بمفاصل الدولة والقضاء والأجهزة الأمنية ولعل الإهانة التي تعرض لها العسكريون بعد فشل الانقلاب وتحديداً من قبل الشرطة السرية وعناصر حزب التقدم والعدالة، ستترك أثراً بالغاً في المجتمع التركي يصعب تجاوزه بسهولة وربما سيكون لها تداعيات مستقبلية، ومن الواضح اليوم أن الرئيس أردوغان سيشرع بحملة تطهير غير مسبوقة وربما توفر له الفرصة الذهبية للقضاء على كل الخصوم ودون رحمه وهو المعزز بالشرعية الديمقراطية والتفاف القوى السياسية حوله دفاعا عن شرعية الصندوق وانسجاما مع حالة الرفض المعروف لدى الأحزاب من العسكر بشكل عام في تركيا، والاخبار الواردة عن اعتقال الآف القضاة والعسكريين تؤكد أن الحملة بدأت فعلاً والتلويح بعودة عقوبة الإعدام استجابة لمطالب الجماهير التي خرجت رافضة للانقلاب. فأردوغان أعلن وسط مناصريه آنه يستجيب لرغبات الشعب.
الرئيس التركي لم يتأخر هو ورئيس وزرائه بن علي يلدريم بتوجيه إتهام صريح للداعية التركي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بالمسؤولية عن الانقلاب الفاشل والمطالبة بتسليمه الأمر الذي رد عليه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بانه يرفض التلميحات العلنية لمسؤولية بلاده عن المحاولة الفاشلة والتي عززها تأخر الولايات المتحدة عن التعليق على الاحداث في تلك الليلة ثم التعليق لاحقا ودعم الشرعية، ولقد بدأ جلياً أن العديد من العواصم الغربية لا تكن وداً كبيراً للزعيم التركي من خلال ترددها بالإدانة الفورية.
لم نسمع القصة الحقيقية للانقلاب أو مشروع الانقلاب الذي قام به مجموعه من الهواة على ما يبدو؛ لكن المؤكد أن تركيا اليوم على مفترق طرق ولا نعرف حتى اللحظة اين تسير مستقبلاً في حمأة الزهو بالانتصار والالتفاف حول الرئيس الذي يشكل اليوم ثاني أهم شخصية في تاريخ تركيا الحديث بعد مؤسسها مصطفى كمال اتاتورك، فالبرغم من أن زمن الانقلابات ولى ولم يعد مقبولاً في هذا الزمن، إلا أن ما حدث في الساعات الثمانية والأربعين الأخيرة عقب إحباط المحاولة كشف عن إختلال حقيقي في تجرية الاخوان المسلمين وذراعهم السياسي التقدم والعدالة في ضوء التعامل مع الحريات السياسية والإعلامية وتعزيز النزعات المذهبية والعرقية ورفض الاخر، والتناقض مع السياسات الأوروبية وتحديداً في ملف محاربة الإرهاب والحركات التكفيرية في بلد شكل حالة نجاح ونموذج ديمقراطي لا يمكن انكارها ولكنها دخلت في صراعات داخلية وخارجية معقدة ولعل معظم الإشارات الواردة وأوضحها ما جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسي وبصيغة تحذير بأن على أردوغان أن لا يعتبر ما حصل بمثابة شيك على بياض بل عليه ان يستند للقانون والدستور وأن يظهر جدية بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي الذي ما زالت تركيا تتعرض لشكوك قوية كممر وحيد لعبور العناصر الأرهابية وتقديم التسهيلات اللوجستية له.
ما زالت مآلات المستقبل في تركيا عصية على الفهم والاستنتاج الدقيق؛ ومرد ذلك صعوبة فهم شخصية الرئيس التركي التي تتسم بالاعتداد بالنفس ورفض الخضوع والتكيف بسهولة والانحياز لخيارته مهما كلف الثمن، إلا أن البعض يرى أن الرجل الذي ارتبط بالإنجازات الاقتصادية والإصلاحات السياسية في تركيا منذ اكثر من عشر سنوات؛ لديه من المرونة ما يمكنه من تحقيق استدارة كاملة في سياساته، ودليلهم على ذلك ما حصل مؤخرا في العلاقات مع إسرائيل وروسيا، وفتح قنوات سرية مع سوريا، والاتجاه نحو تطبيع العلاقات معها ومع العراق وصولاً لمقاربة سياسية جديدة في معظم ملفات السياسة الخارجية.
هل سيستمر الرئيس أردوغان في حملة التطهير الكبرى التي يقودها ويتخذ من الانقلاب الفاشل فرصة ذهبية للانقضاض على خصومه السياسيين والعسكريين وبالضربة القاضية والانقضاض على خصومه الأساسيين في الداخل وتحديداً حزب العمال الكردي الذي يخوض معه حرباً كلفتها حتى الآن اكثر من خمسمائة قتيل، وتعزيز سلطاته تمهيداً للانتقال الى الصيغة الرئيسية المطلقة التي يسعى لها والتي ربما كانت من الأسباب الرئيسية لخلافه مع صديقيه منظر حزب التقدم والعدالة داود أوغلو والرئيس السابق عبد الله غول، أو أن يعتبر أن انحياز المجتمع المدني والشارع التركي والأحزاب بما فيها الأحزاب الأربعة المعارضة والمؤسسات الإعلامية لخيار الديمقراطية والشرعية ورفض الانقلاب مقدمة لمزيد من الانفتاح على المعارضة والقوى السياسية والاعلام فالالتحام بين كل المؤمنين بالخيارات الديمقراطية هو الخيار الأوحد لإفشال الانقلابات العسكرية التي لن يكون مستغربا أن تكون قادرة على العودة مستقبلاً اذا ظلت عقلية الاستئثار بالسلطة هي المسيطرة.
المؤكد ان الساعات الست التي عصفت بليل تركيا في الخامس عشر من تموز أدخلت تركيا في زمن اخر لن تكون فيه تركيا كما كانت قبله، وقد يكون لتلك المحاولة الانقلابية الفاشلة في قادم الأيام تداعيات على تركيا وعلى مجمل الملفات في الاقليم يصعب الآن التنبؤ فيها وبالسناريوهات المستقبلية ومآلات المشهد التركي والإقليمي ككل ولكننا لا نملك إلا الأمل والانتظار.
نيسان ـ نشر في 2016-07-18 الساعة 23:51
رأي: د. زيد النوايسة أكاديمي وكاتب