اتصل بنا
 

الفكر وهندسة القيم السياسية

نيسان ـ نشر في 2016-08-30 الساعة 11:47

السياسة والفكر الديمقراطي في العالم العربي: تحذير من الانحراف الإيديولوجي والتركيز على الإبداع والنقدية المنفتحة.
نيسان ـ

من يعاين الحياة السياسية العربية، في جانبها المعارض، وعلى مدار العقود الستة الفائتة، يلحظ، بما لا يدع مجالاً للشك، أن كثرة كاثرة من سياسيينا المعارضين، كانت، ولا تزال، تنشد الديمقراطية، وتعمل لأجلها، في السياسة، ولا تكترث لتزكيتها، كمفهوم، على مستوى تعميق الفكر والثقافة. وهذه ليست نظرةً قاصرةً وحسب، وإنما هي سببٌ في تبلبل ما كان ينادي به هذا السياسي العربي المعارض نفسه، من تغيير سياسي، أو توجّه جدّي فاعل نحو الديمقراطية، إذ السياسة، أصلاً، جزء من الفكر، أو التفكّر الفلسفي والنظري بشكل عام. به تنتعش وتتطور، وتُطور معها الحياة الديمقراطية والعقلانية النقدية المنفتحة بدورها على نهج تعزيز الإنسان في كل شؤونه المادية والمعنوية.
ومتى ما تحصّن السياسي المعارض بمربع إيديولوجي ضيّق، أو حتى بمربع ليبرالي "فسيح"، لا يحيد عنه، مُهمّشاً، بالتالي، أي فكر أو إبداع آخر في موضع التصارع معه، يكون، بالفعل، قد حكم على تجربته السياسية و"الفكرية" بالعقم والإفلاس المقيم.
هكذا ظلّ الفكر العربي المستقل في ضفةٍ، والعمل السياسي العربي المباشر في ضفةٍ أخرى، وتحوّل السياسيون المعارضون إلى ديكتاتوريين يقصون، وعلى طريقتهم، المفكرين والشعراء والكتّاب الكبار من جنتهم الإعلامية، اللهمّ إلّا إذا انزلق بعض هؤلاء المبدعين ليكون في عداد بطانة أولئك، أو يتبارك بمباركتهم؛ إذ ذاك تنتعش أوضاع هؤلاء غير الإبداعية، ويحصل على ماكينةٍ إعلاميةٍ، ولا أدهى ولا أوسع. وليس شرطاً أن تكون هذه الماكينة قادرة بأدواتها على فهم (وتمثل) ما يطرحه هذا البعض المفكّر أو المبدع من أسئلةٍ تجريبيةٍ ونقديةٍ متجاوزة في مجال تخصّصه الإبداعي، غير أن مبدعين عديدين جدّيين، ممن انزلقوا يوماً إلى غير محلّهم ومناخاتهم، سرعان ما عادوا إلى محلّهم الأول، بعدما اكتشفوا بأنفسهم أنهم لا يصلحون لأن يكونوا صنّاجة إعلامية لغيرهم.. والعكس صحيح أيضاً، فآثروا الانسحاب من المعادلة الجديدة، واختاروا ثانيةً نهج العودة إلى النتاج، بلا سطوة هواجس إعلامية ذاتية مسبّقة، نافضين عنهم شطط العقل الاستعراضي والبهرجي العابر.
ليس القول، هنا، إن على المفكر الحر، أو الشاعر، أو المبدع في أيّ اتجاه كان، ألّا يكون بلا موقف سياسي.. على العكس، نريد للمفكر أن يكون في فضاء تيار سياسي، وناشطاً سياسياً فاعلاً ومحورياً، ولكن أيّ تيار هنا؟.. أو أي نظرية سياسية؟.. وبقيادة من؟ وما هو مستوى هذه القيادة ووزنها وإيقاعها التاريخي، فكرياً وثقافياً؟
بوجيز العبارة، نريد للسياسي أن يرتقي إلى مستوى الفكري والإبداعي. حينئذٍ، ينتج سياسةً حقيقية مختلفة، ديمقراطية ومستقبلية، ويبتعد، بالتالي، عن أن يكون في عداد المتمرّسين في النفاق السياسي والإيديولوجي والإعلامي.
هكذا، فإن تعميق هندسة القيم السياسية العليا تأتي دوماً من ينابيع الفكر والإبداع، وليس ألبتة من الرغبة بامتلاء الأنا بالسلطة السياسية، كيفما اتفق.
وإذا كان ميكيافيلي (1469 – 1527) مؤسّس التنظير للواقعية السياسية (في كتابه الأشهر: "الأمير") قد اعتبر أن من المسموح به في الصراع السياسي استخدام كل الوسائل، بما فيها القسوة والوحشية، من خلال قولته الشهيرة، والتي اخترقت العصور عصراً بعد عصر، "الغاية تبرر الوسيلة"، إلّا أنه، في المقابل، دعا القائد السياسي إلى التسلّح بالفكر والثقافة، وإلى اختيار مستشاريه على هذا الأساس، أي من طبقة الفلاسفة والكتّاب والمبدعين. يقول: "الطريقة الأولى لتقييم حكمة الحاكم وصواب وجهة نظره، هي النظر إلى الرجال المحيطين به".
"نريد للسياسي أن يرتقي إلى مستوى الفكري والإبداعي. حينئذٍ، ينتج سياسةً حقيقية مختلفة، ديمقراطية ومستقبلية، ويبتعد، بالتالي، عن أن يكون في عداد المتمرّسين في النفاق السياسي والإيديولوجي والإعلامي"
وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن ميكيافيلي كان، بالإضافة إلى انخراطه في السياسة في عصره حتى الثمالة، خصوصاً إبّان الاضطرابات والحروب التي مرت بها مدينته (دولته) فلورنسا، كان أيضاً شاعراً وكاتباً ومسرحياً وفيلسوفاً ومؤرخاً، وهذه الدوافع الإبداعية كلها هي التي جعلت منه منظّراً، بل عالماً حصيفاً في السياسة وأدوارها ومدارات نتائجها. وربما لأجل ذلك، شهد له هيغل بالعبقرية والسداد، وامتدحه روسو قائلاً إنه "مُلهِم الساسة والسياسيين، وسابق لعصره، وأهل ذلك العصر" (راجع كتاب "روسو في الميزان" لجورج أمين مقدسي بيروت 1983). واعتبره فقهاء السياسة في العصر الحديث بوابة عصر التنوير الأوروبي، حيث استفاد من تنظيره وحراكه، بهذه الكيفية أو تلك، فولتير ومونتسكيو وروسو وجون لوك.. وغيرهم.. وغيرهم من كبار فلاسفة عصر الأنوار ومفكّريه الرموز.
هكذا، يجب أن ينتبه السياسي العربي المعارض، وغير المعارض، إلى أن تاريخ الشعوب والإنسانية بوجه عام، هو تاريخ حضاراتٍ ومنجزاتٍ ثقافية وإبداعية كبرى، تؤشّر بدورها إلى مستوى السياسي نفسه وديمقراطيته واستراتيجيته التي ينطلق منها، أو على أساسها، في ترجمة سياساته، بعيدة المدى أو قريبة المدى.. لا فرق.
ونحن، هنا، أمام مبدأ شامل، يتسامى به العقل المبدع، سواء في السياسة، أم خارجها، وخصوصاً في الفكر النقدي والفلسفي، فضلاً عن الأجناس الأدبية والإبداعية بصنوفها كافة. والقادة السياسيون الكبار في التاريخ يخلقون شعوباً قائدة في التاريخ، وهذه الشعوب توجِد آليات تطورها ونهضتها وتصويبها النقدي لكل السياسات المعنية بها.
مقطع القول، لا يجوز أن تكون السياسة خاليةً من الفكر التعدّدي، الاختلافي، وحتى التناقضي المفتوح على التناقض باستمرار، ذلك أن العقل السياسي المبدع والريادي، إنما يتجلّى هنا، أي على محكّ هذا الفالق "الدائم"، فإما أن يهضم هذا التحدّي، ويتجاوزه بالعقلانية النقدية الحكيمة، أو أن يسقط في أفخاخه وأهواله المفتوحة على مزيد من الأهوال والجائحات. وليس للسياسي العبقري سوى أن ينجح، ولو بأقل الإمكانات المتاحة له. ومن هنا، قيل إن السياسي الكبير لا يظهر إلّا في زمن الأزمات والحروب المعقدة، الطويلة والمتداخلة، بل إن بطولته تبدأ من هنا، من استيعاب عملية الصراع المعقّد وتاريخيته، واستيعاب طبيعة القوى والظروف المنتجة له، وأهدافها الحقيقية التي تقف خلف الشعارات التي يطلقها الأعداء المهاجمون له.
وأخطر ما يواجهه القائد التاريخي بعد، ليست المعارك التي يخسرها هنا وهناك وهنالك فقط، فتلك بالإمكان تجاوزها مع مرور الوقت، والاستعداد لمعارك جديدة، وبعناصر قوى جديدة، بشرية ومادية.. أخطر ما يواجهه القائد التاريخي أن يعيش مع شعبه ووطنه، من يوم إلى آخر، برؤية الآخر، واستراتيجية الآخر، وخطر الآخر، أي بترجمةٍ أخرى، أن يظلّ حبيس أرجحة ردّ الفعل، لا الفعل الذاتي الأول أو المبادرة الأولى، ففاقد الرؤية لا يعطيها، والرؤية، في المحصلة، هي معرفة وفكر ونظم فكرية ومعرفية، قبل أن تكون أي شأن آخر، خصوصاً في السياسة وعلمها المتطور، منذ أفلاطون وأرسطو، اللذين اعتبرا المدينة أو الدولة كائناً فلسفياً وأخلاقياً، وحتّى يومنا هذا.

نيسان ـ نشر في 2016-08-30 الساعة 11:47


رأي: أحمد فرحات

الكلمات الأكثر بحثاً