فوضى الشهادة
نيسان ـ نشر في 2016-08-30 الساعة 11:48
فوضى الشهادة في العالم العربي والحاجة إلى تعريف جديد للشهادة.
من أقنع المتحاربين العرب، في الزمن الراهن، أنهم يستنّون بسنة نبينّا الكريم، وهم يقفون على جبلين متقابلين، وكل طرف يصيح: "قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار"؟
يطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح، في خضم ما يمكن تسميتها "فوضى الشهادة" التي أصبحت نتاجاً آخر من نتاجات التطاحن الذي يجتاح الخريطة العربية، حيث كل طرف يشيّع "شهداءه" بالورود والزغاريد، ويدسّ في نعشه "صك دخول الجنة"، من دون حساب.
ومن مفارقات الملهاة أن ترى مراسم تشييع "شهيدين"، في حيّين متجاورين، كما يحدث في سورية والعراق الآن، سقطا برصاص بعضهما، وكل طرفٍ يدّعي أن ابن حيّه هو الشهيد، والآخر هو "الكافر"، ترى "شهيداً" من الجيش السوري محمولاً على أكتاف رفاق السلاح، يودّع إلى مثواه الأخير بالرصاص والمراسم العسكرية، وليس بعيداً عنه، ترى مقابله "شهيداً" من المعارضة، محمولاً هو الآخر على أكتاف زملائه، وكلا الشهيدين يسابق الآخر للدخول إلى الجنة. ولا يختلف المشهد في العراق كثيراً، عن "شهيد سني"، و"شهيد شيعي"، أو بين "شهيد صابئي"، وآخر "أيزيدي"، أو "داعشي"، لأن كل طرفٍ يعتقد أن ملته وحدها كفيلة بتحديد "الشهيد"، ومنحه جواز العبور إلى رضا الخالق، وحيازة التكريم في الدنيا والآخرة.
والحال أننا بتنا نحتاج، فعلاً، إلى تعريفٍ جديد للشهادة، مغايرٍ لما عرفناه ودرسناه، وأعني به تعريفاً يستطيع أن يحسم ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين "القتيل" و"الشهيد"، قبل أن نصبح كلنا شهداء أو قتلى، ولكي يكون في وسعنا أن نزغرد في جنازة "الشهيد" منا، ونضع باقة ورد على ضريحه، ونقيم له نصباً تذكارياً، مقابل تجاهل قبر القتيل الذي مات مخدوعاً بالشهادة.
ولربما نحتاج، أيضاً، أن نحذو حذو تركيا بتخصيص مقبرتين منفصلتين، إحداها لـ"شهداء الانقلاب"، والأخرى لـ"الخونة" الذين آزروا الانقلاب، أو كانوا جزءاً منه، إذ لا يجوز أن يدفن القتيل والشهيد في ضريحين متجاورين، وفي المقبرة نفسها، على اعتبار أن ثمّة فرقاً بين موتٍ وموت، ولا ينبغي أن يُدنس "الشهيد" بدم "القتيل" أو برائحته العفنة.
جزم بأن "فوضى الشهادة" تراجيديا شرقية، بامتياز، تُضاف إلى مسلسل التراجيديات الساخرة التي تعيشها شعوبنا، هذه الأيام، ولا غرابة إن تمخّضت عن "فوضى المعتقدات المسلحة"، وفوضى الحروب التي لا يحدّد فيها المحارب إلى أي طرفٍ ينحاز إلا قبيل المعركة بدقائق، على غرار ذلك المحارب في إحدى الروايات الذي كان ما إن يسمع بحربٍ تدور رحاها من بعيد، حتى تأخذه الحماسة، وينخرط فيها، من دون أن يعرف الخصم أو الصديق، لأنه لم يكن يبحث إلا عن حربٍ فقط.
حتى وقت قريب، كان لنا مقياس وحيد نفصل فيه بين الشهيد والقتيل، فكنا نقول إن من يسقط دفاعاً عن فلسطين هو الشهيد، ومن يسقط على أرض غيرها قتيل، غير أنه بات علينا أن نعيد حساباتنا الآن، خصوصاً وأن فريقاً بات يشكّك في هذا المقياس، من أصدقاء إسرائيل طبعاً، ويذهب إلى حدّ تحريم مقارعة الاحتلال.
عموماً، كنت أودّ لو أن المزغردين، في أتون "فوضى الشهادة القائمة" الآن، أصاخوا السمع قليلاً، ليكتشفوا أن هناك من يشاركهم زغرداتهم واحتفالاتهم بـ"شهدائهم"، وأعني بها إسرائيل، تحديداً التي تودّ لنا، فعلاً، أن نسقط جميعاً "شهداء". لكن بعيداً عنها، وهي على استعدادٍ، لإقامة الأفراح أو المآتم إن شئنا، نيابةً عنا، وتوزيع فناجين القهوة "السادة" والحلويات والورود، احتفاءً بجلال المناسبة، لأنها تخلصت من شهيدين كان يمكن أن يكونا محاربين ضدها، وهي وحدها المستفيد الوحيد مما يجتاح شرقنا الغارب من "فوضى الشهادة".
نيسان ـ نشر في 2016-08-30 الساعة 11:48
رأي: باسل طلوزي