اتصل بنا
 

بحثاً عن ساق مقطوعة

نيسان ـ نشر في 2016-09-20 الساعة 12:17

السيقان المقطوعة: المجتمع المدني لا يمكن تجسيده في البلاد العربية.
نيسان ـ

لا تصدّقوا "أبو ساق مقطوعة"، إذا رأيتموه، يوماً، يعتلي المنبر، أو يدبّج مقالاً ساخناً عن ضرورة تجسيد "المجتمع المدني" في البلاد العربية، واقعاً ملموساً، بل الأجدى بكم أن تسألوه، قبل ذلك، لماذا قطعت ساقه أولاً، ولماذا ما يزال يحمل ساقه المقطوعة، كلما غادر المنابر، والمؤتمرات المخملية، وخلا إلى نفسه، وراح ينادي قبيلته، مطالباً بالثأر له.
واسألوه، أيضاً، كيف بمقدوره أن يتناذر ويتناسل ويتكرّر، على هذا النحو، منذ أكثر من ألفي عام، في كل منعطفات التاريخ العربي، منذ قطعت ساقه في زمن الجاهلية، حين مدّها في مجلسه، ذات يوم، متحدّياً الجالسين، أن يجرؤ أحدٌ منهم على قطع ساقه، فما كان من أحدهم الذي يماثله غباءً إلا أن استجاب للتحدّي، وأجهز على الساق، لتثور بعد ذلك حربٌ ضروس، بين قبائل جاهلية، سببها هذه الساق اللعينة.
قلت إن هذا الرجل الأبتر لم يغادر الشوارع العربية، منذ ذلك الحين، لأنه ما يزال يجد بيئةً قبليةً خصبة، قابلة للثوران، عند أدنى حركةٍ غبية، فينادي على قومه، ليهبّ لنجدته ألف مقاتل لا يعرفون سبب المشكلة، لكنهم على استعدادٍ لخوض حربٍ لا تبقي ولا تذر، استجابةً لنداء العرق والفخذ فقط.
عموماً، يخطر في ذهني ذلك الجاهليّ الأبتر، كلما وقعت عيناي على مصطلح "المجتمع المدني" الذي بات بالغ التكرار في مقالاتٍ وندواتٍ وحواراتٍ عربية، من دون أدنى تعمق في فلسفة هذا المصطلح، وأساليب تجسيده واقعاً في الحياة العربية القافزة على قدم واحدة.
والحال أن هذا المصطلح المعلّب لا يختلف كثيراً عن مصطلحات أخرى، نستوردها، ونحاول تسويقها بين القبائل، كمصطلح العلمانية، والديمقراطية، وغيرهما، في حين يعود كل منا، بعد ذلك، إلى قبيلته، ليتفيأ ظلالها، بعد انتهاء الندوة، أو كتابة المقال، فيمدّ ساقه، ويتحدّى من يقطعها.
ولربما أكون صادماً، بعض الشيء، إذا قلت لكثيرين من أصحاب السيقان المقطوعة إن أول شروط المجتمع المدني أن يكون المواطن، منذ ولادته، ابناً للدولة، لا للأسرة والقبيلة. وعليه، ما ننادي به من "ترابط أسري" أو "عشائري"، أو "جهوي"، هو نقيض تام للمجتمع المدني الذي نتحرّى الوصول إليه.
فهل بلغ أصحاب السيقان المقطوعة أن دور الأسرة في المجتمع المدني لا يتعدّى التربية والعناية فقط، فهل نحن مستعدّون لتقبل تحرّر أبنائنا واختيار ما يلائمهم من حياة وفكر وديانة وحرية معتقد وممارسة، حتى لو كانت جنسية، من دون أن "نولول"، وندسّ أنوفنا في حياتهم وممارساتهم، وغرف نومهم، ورسم خطوط حياتهم حتى القبر؟
أيضاً، هل نحن مستعدّون لترك القضاء يأخذ مجراه، بحق أبنائنا، إذا ارتكبوا جنايةً أو جريمةً، أو تعدّوا على حقوق الغير، من دون أن نستنهض قبائلنا وأفخاذنا، وعظام أجدادنا، لنصرته "ظالماً وظالماً"؟.. وهل نقبل أن نبرئ سائقاً إذا دهم ابننا بسيارته إبّان قطعه شارعاً من مكانٍ غير مخصص لعبور المشاة، فلا نطالبه بإحضار قبيلته كلها لتقبيل رؤوسنا، وأيادينا، ودفع "الدية" التي ربما لا تكفي أموال القبيلة كلها لدفعها؟
وينطبق الأمر نفسه على المرأة، في المجتمع المدني، إذ لا يحق لنا أن نقتل بناتنا بدوافع "الشرف" و"القرف"، أو نحرمهن من حقوقهن في المساواة الكاملة مع الرجل، وفي تقرير مصائرهن بأيديهن، وحقهن في الإرث والولاية، وتساوي الرواتب، وجميع الامتيازات الممنوحة للذكر العربي.
وقد يتفلسف أبو ساق مقطوعة، فيزعم أن باستطاعتنا "انتقاء" ما يناسب مجتمعاتنا من "المجتمع المدني"، فنبقي على "الترابط الأسري" و"الترابط القبلي"، وهيمنة الأديان. لكن، مع الأخذ بـ"الديمقراطية" فقط، متناسياً كيف أودت القبليّة كل مشاريعنا النهضوية، قبل ذلك، وكيف حشونا "القومية" و"الاشتراكية"، بل والدين أيضاً، في عباءاتنا، لتتكيف مع ولعنا بالقبيلة، فجاءت النتائج على ما نراه اليوم.
حاصل القول، المجتمع المدني وحدةٌ واحدة، إما أن نأخذه كله غير مبتورٍ كسيقاننا، أو الأحرى بنا، أن نعاود البحث عن ساقنا المقطوعة.

نيسان ـ نشر في 2016-09-20 الساعة 12:17


رأي: باسل طلوزي

الكلمات الأكثر بحثاً