اتصل بنا
 

المسكوت عنه في العراق

نيسان ـ نشر في 2016-09-22 الساعة 11:25

صلة لمنع الاتجار بالبشر والدعارة بعد الغزو الأميركي في 2003.
نيسان ـ

في واحدةٍ من مرويات الأميركيين اللاتينيين أن كولومبوس، عندما غزا شاطئ الكاريبي، كتب إلى فرديناند ملك إسبانيا "هنا الجنة الأرضية: حوريات وذهب ولؤلؤ".
بعد ستة قرون، غزا الأميركيون بغداد وعيونهم على النفط والنساء، كتب أحدهم من المنطقة الخضراء "لدينا شخصٌ أمني يأتي إلينا بعراقيات جميلات". ليس الأمر حادثة عابرة، فثمّة ما تشيب له الرؤوس. مندانا هندسي البريطانية الجنسية، الإيرانية الأصل، والعاملة في سلطة الاحتلال المؤقتة "خبيرة من أجل إعداد المرأة العراقية للانتخابات"، أنشأت، بالتعاون مع وزارة العمل العراقية، داراً للترفيه عن العسكريين الأميركيين وتابعيهم، تحت لافتة "ملجأ للنساء المعذّبات بالعنف المنزلي". المذهل أن الدار على بعد أمتار من سكن رئيس الجمهورية (غازي الياور آنذاك) في المنطقة الخضراء، لم يتدخل الرئيس، لأن السلطة هي للعسكر الأميركيين الذين يمكنهم ارتكاب الأعمال الأكثر حماقةً بحماية القانون. اعترضت زوجة الرئيس فيما بعد، وأغلق الملجأ. اعترفت هندسي بذلك، وتذرّعت بأنها كانت تتصوّر، في البداية، الأمر من الشائعات، لكنها أضافت أن مستشاري سلطة الائتلاف ووزارة العمل أغمضوا عيونهم عما كان يحدث.
واقعة لافتة أخرى، أن اليابانية يوكيكو موراجيشي، يسمونها الآنسة خضراء، جاءت ضمن "الدروع البشرية" لتفادي العدوان، لكنها بقيت في بغداد بعد الغزو، لتستثمر خبراتها، فأقامت بيت راحة للعسكريين الأميركيين في المنطقة الخضراء، وانتشرت قصتها في الصحف اليابانية، لكن العراقيين، كالعادة، صمّوا آذانهم.
"اليابانية يوكيكو موراجيشي، يسمونها الآنسة خضراء، جاءت ضمن "الدروع البشرية" لتفادي العدوان، لكنها بقيت في بغداد بعد الغزو، لتستثمر خبراتها، فأقامت بيت راحة للعسكريين الأميركيين"
وكانت "مفوضية تطبيق شروط معاهدة هلسنكي"، وهي وكالة أميركية مستقلة، قد نبهت إلى ضرورة "وضع استراتيجيةٍ لمنع ظهور الدعارة والاتجار بالبشر في العراق"، لكن الولايات المتحدة أخلت مسؤوليتها، وألقت اللوم على حكومة بغداد، وثبت تقرير لوزارة الخارجية الأميركية لم يسمع به الحاكمون في بغداد، أو أنهم سمعوا به، وفضلوا الصمت: "العراق بلد مصدر ومستورد للرجال والنساء المباعين لأغراض الاستغلال الجنسي، ... تهريب النساء للدول المجاورة ... موظفو دور الأيتام يتاجرون بالبنات الصغيرات لأغراض تجارة الجنس ... العراق لم يتخذ خطوة ذات قيمة لمعالجة الظاهرة، والحكومة لم ترفع قضية، ولم تدن أي متورّط". وأوصى التقرير ب "زيادة التحقيقات بشكل جاد لحالات تهريب البشر للأغراض الجنسية، وكبح تواطؤ المسؤولين العموميين (العراقيين) في تجارة النساء".
بذلت مؤسسات وشخصيات نافذة جهداً محموما لغلق مواضيع كهذه، والتعامل مع من يحاول رفع الغطاء عما هو مستور بقسوةٍ وفظاظةٍ، ودفعه إلى التراجع أو الاستسلام، لكن الكاتبة والروائية، بثينة الناصري، اقتحمت هذا الجانب البالغ العتمة بجرأةٍ ومسؤوليةٍ، وعملت، منذ الغزو، على كشف الحلقات السوداء في مسلك الحكومات التي نصبها الاحتلال. أنشأت أكثر من موقع إلكتروني، وكتبت، في أكثر من صحيفة، وتصدّت لأكثر من ظاهرة، وإن تحت أسماء مستعارة، لكنها، هذه المرة، كشفت عن هويتها الحقيقة، وشرعت في مغامرةٍ لافتةٍ لفضح جانب مما هو مسكوت عنه، وأخرجت الغاطس في أعماق المنطقة الخضراء ومن حولها، وفضحت المستور بفعل فاعل، أو مسكوت عنه، لا لأنه يسقط أعرافاً وتقاليد وقيماً فحسب، إنما قد يسقط أنظمة ومؤسسات وشخصيات فاعلة. فطنت الناصري لهذا كله، وتحسبت لمغامرتها بشجاعةٍ وطول بال، فاستقصت وبحثت ودققت سنين عدة، حتى أعطتنا كتابها المثير "الاحتلال وتجارة الرقيق"، لترسم لنا صورة جلية لهذا العالم الخفي، وإن وصفت ما أنجزته بأنه ملف "غير مكتمل"، ولعله سيظل كذلك، لأن الذين بيدهم السلطة سيواصلون ضرب من يجرؤ على الكلام، ويرهبونه بأسلحة الاختطاف والقتل والتغييب، كما فعلوا مع الصحافية سحر الحيدري التي اغتيلت، لنشرها تقارير موثقة عن اختطاف البنات واغتصابهن والاتجار بهن، وعن رعاية جهات أميركية ومحلية هذه الممارسات. وكذلك الصحافي سوران مامه الذي اغتيل، هو الآخر، بعد أن كشف لصحيفة كردية تورّط مسؤولين ورجال أمن وعسكريين في إنشاء دور بغاء على مقربةٍ من قواعد عسكرية أميركية في الموصل وكركوك.
وجهت بثينة الناصري أصابع الاتهام في ترويج تجارة الرقيق في العراق إلى الشركات الخاصة والمقاولين الأهليين الذي رعتهم سلطة الاحتلال، مسلطة الضوء على الدور القذر الذي لعبته هذه الجهات، طوال السنوات العجاف التي أعقبت الغزو، ووسط صمت حكومة بغداد وتجاهلها ما حدث.
الأكثر إثارة أن جانباً من ذلك كان يجري في المنطقة الخضراء بالتحديد، تنقل الكاتبة عن توماس ريكس، مؤلف كتاب "فشل المشروع الأميركي في العراق"، أنه سمع جنوداً أميركيين يهتفون عند مجيئهم إلى المنطقة الخضراء في مهمة ما: "واو.. هذه مدينة سدوم وعمورة".
وعلى الرغم من هذا كله، لا من رأى.. ولا من سمع.

نيسان ـ نشر في 2016-09-22 الساعة 11:25


رأي: عبد اللطيف السعدون

الكلمات الأكثر بحثاً