شمعون بيريز ما لا يذكره عنه الإسرائيليون والعرب معا
نيسان ـ نشر في 2016-10-02 الساعة 14:07
لطالما عبّر شمعون بيريز الرئيس الإسرائيلي السابق الذي رحل قبل أيام، عن بهجته من توافق يوم ميلاده مع تاريخ العشرين من أغسطس في العام 1993، تلك الليلة التي وقع فيها من سمّاهم “ما تبقى من أعضاء الوفدين المفاوضين الإسرائيلي والفلسطيني على اتفاق سلام”. لم يفوت بيريز الفرصة حينها، فقد كان سعيداً بنقل عبارة قالها له أبو علاء ممثل منظمة التحرير الفلسطينية “هديتنا لك في عيد ميلادك توقيع اتفاق أوسلو”.
يعتبر بيريز نفسه من جيل “فقد عالمه في الخارج” أي خارج فلسطين وإسرائيل معاً. وجهد كي يبني عالماً جديداً في الشرق.
يستلهم بيريز عبارة الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس ليصف العلاقات ما بين العرب والإسرائيليين “على أجساد أولئك الذين يسبحون في النهر، تتدفق مياه مختلفة” ويفسر قائلاً إن من لا يستطيع السباحة في النهر سيجرفه التيار. فنحن لا نستطيع بناء المستقبل على أنقاض نظام قديم.
كلمات بيريز تلك تلخص التطور الذي وصلت إليه السياسة الإسرائيلية في عقول مؤسسي الدولة العبرية، بعد أن كانت حلماً يبشّر به هيرتزل ثم عصابات هاجاناه، ويقوده كل من غولدا مائير وموشي دايان ورابين وبيغن وشارون وبيريز نفسه ثم دولة عليها أن تنهي الصراع بأيّ شكل بما يضمن بقاءها.
المستقبل
إلا أن بيريز الذي كان أول من نادى بشرق أوسط جديد سيكون قائماً في المستقبل، يعترف بأنه لم يكن صاحب الفكرة. بل إن المستشار الألماني هيلموت كول كان يعود إليه الفضل، كما يقول بيريز، في “زرع الاحتمالات العظمى للشكل الإقليمي الجديد لكلّ من أوروبا والشرق الأوسط”.
فبدأت الشراكات مع المفوضية الأوروبية في الدول العربية، في حين تم تعهيد اليابان بقطاع السياحة، واختار الفرنسيون والألمان قطاعي النقل والمواصلات والإيطاليون مشاريع الأنهار الصناعية والنمساويون قطاع الكهرباء والمياه، بينما اختار البريطانيون التجارة الحرة بين الدول العربية وإسرائيل، والدنماركيون قطاع الزراعة أما الأميركيون فتولوا ملف المصادر البشرية وأخيراً تولى الكنديون حل مشكلة اللاجئين.
ماذا لو اختفى العدو
بقي بيريز عقلاً سياسياً متأخراً عن القيادة. غير أنه كان يقود عبر الفكر أكثر من قدرته على اتخاذ القرار، فكان يؤثر بأصحاب القرار من خلال قراءة الإحداثيات والاستعانة بكل المختصين. كما حين سأله الكاتب الإسرائيلي أموس أوز “ألم يخطر ببالك ما الذي سيحدث فيما لو قررت منظمة التحرير الفلسطينية التوقف تماماً عن المقاومة؟”.
نقل بيريز سؤال أوز هذا للساسة الإسرائيليين. قال لهم إن هذا لو حدث، فإن علينا حينها أن نواجه عدواً لا نعرفه. وربما نضطر للتفاوض مع الأصوليين. لذلك فإنه من الأفضل لنا أن نختار عدواً نعرفه، اعتدنا على الحرب معه طيلة العقود الماضية. وهو ما كان.
أو حين أوحى لشارون بفكرة “غزة أولاً” التي طرحها في العام 1980. ففي حين تتمتع القدس بإشكاليات عديدة ذات طابع “عاطفي” و”رمزي” يصعب حلّها، والضفة الغربية ذات تداخلات مع الأردن، فإن غزة ذات الثقل السكاني الكبير والبعيدة عن المركز لن تشكل عائقاً أمام أيّ تقدم في عملية السلام.
كما أن إغلاقها الدائم سيتسبب بمشاكل لإسرائيل مع المجتمع الدولي. ومساحتها تجعل من العمليات الأمنية فيها محرجة للغاية لأن المدنيين، حسب بيريز، سيدفعون ثمناً غالياً حينها. وهي بهذه الصورة منطقة ذات مشاكل كثيرة من الأفضل لإسرائيل الاستغناء عنها. وهو ما حصل أيضاً.
يرى بيريز أن الصراع قد امتد طويلاً، وأن القوى الغربية بعد انتهاء مرحلة الاستعمار واندلاع الحروب العربية الإسرائيلية قد استنزفت المنطقة عبر صفقات التسليح. ما أدّى إلى حالة إحباط لدى الملايين من البشر من سكان الشرق الأوسط. تلك الحالة دفعت بالكثيرين منهم إلى الغيبيات والعوالم الأخرى رفضاً للواقع المحبط من جهة، وللدولة العصرية من جهة أخرى. فغرقوا في الأصوليات الدينية من كل جانب.
بيريز يعتبر نفسه من جيل "فقد عالمه في الخارج" أي خارج فلسطين وإسرائيل معا، وجهد كي يبني عالما جديدا في الشرق. جيل رباه بن غوريون على ضرورة الاستمرار في الصراع حتى النهاية
يضاف إلى ذلك تصور بيريز للحضارة العربية كما وصفها بقوله “ما من أحد يستطيع فهم الحضارة العربية على نحو كامل، ما لم يأخذ بالحسبان ما أسهمت به الثقافة الإسلامية في العلوم المعاصرة والفلسفة والرياضيات والأدب والتجارة والفن”. أما الآن، يتابع بيريز فإننا “نجد أن البعض من المسلمين يحاول إقامة الدولة الإسلامية بالقوة كما في حالة إيران”.
لكن بيريز الذي يتغنى بالدولة الديمقراطية التي أسسها جيله والجيل الذي سبق في فلسطين، ينتقد نتائج الديمقراطية في بعض البلدان العربية، ويقول إن “الديمقراطية على نمطها الغربي قد لا تكون بديلاً مناسباً لحكم الفرد في العالم الثالث”. ويقصد البلدان العربية التي وصفها بأنها “بلدان تفتقر إلى بنىً عصرية وتوزيع منطقي للثروة ومستوى لائق للحياة”.
ومن هنا كانت فكرة بيريز بأن التنمية هي المفتاح، قبل طرح الديمقراطية على شعوب الشرق. فالمجتمعات المتخلفة حين يفتح لها الباب الديمقراطي ستتجه إلى التطرف، بينما حين تكون في بيئة مرفّهة ستمارس الحياة الديمقراطية بهدوء ودون تشنجات. ولعل هذا يفسر الكثير في موقف إسرائيل مما يجري في العالم العربي اليوم.
العالم المنشطر والنظام الإقليمي
قسّم بيريز العالم في القرن العشرين إلى أجزاء أربعة منشطرة. رسمها انشطار عمودي من الشمال إلى الجنوب، تحكمت به الأيديولوجيا والصراع بين الديمقراطية والشيوعية. وانشطار أفقي من الشرق إلى الغرب قسّم العالم إلى قسمين شمالي وجنوبي صبغته الصبغة السايكولوجية والاقتصادية. "شمال مزدهر، متقدم، علمي، تكنولوجي، أبيض، مقابل جنوب فقير، متخلف، مغبون، متأخر، غير أبيض".
كسر هذا الانشطار حسبما يعتقد بيريز التطوّر الاقتصادي الهائل الذي ظهرت به الصين والنّمور الآسيوية وكذلك أميركا اللاتينية. وحين يُسقط بيريز تلك المعطيات على منطقتنا، كما يسمّيها، فإنه يخلص إلى أن الأصولية ليست التهديد الوحيد. ولكن معادلة الصراع بحد ذاتها. فالعرب لا يمكنهم هزيمة إسرائيل. وإسرائيل لا يمكنها فرض السلام بالقوة على العرب. إذن لا بد من حلول أخرى.
آخر الحروب بين العرب والإسرائيليين في نظر بيريز هي حرب العام 1973 التي لم يخرج منها أيّ منتصر، كما يقول. ولولا “مغامرة إسرائيل المأساوية وغير الضرورية في لبنان، لتغيّر التاريخ”.
يستلهم بيريز غالباً أفكاراً من السير توماس مور ومن كتابه “يوتوبيا”، بالذات حين يصف حال أمّة غزت أمّة أخرى، فباتت تعيش حالة طوارئ مديدة. يقول مور “منذ أمد بعيد توجه هذا الشعب إلى الحرب ليكسب مملكة أخرى لمليكه، الذي ورث حقاً قديماً فيها عن طريق الزواج. وعندما غزوها وجدوا أن الاحتفاظ بها لا يقل صعوبة عن الحصول عليها. فرعاياهم الجدد إما في ثورة متصلة أو أن الغزاة الأجانب يهاجمونهم. وعليه وجد الأكوريون أنفسهم في حالة حرب دائمة إما لمواجهة هؤلاء الرعايا أو للدفاع عنهم. وفي غضون ذلك باتوا يعانون بسبب الضرائب الفادحة. بينما الأموال تتسرب من مملكتهم. ودماؤهم تسفح من أجل الغير. والسلام بقي بمنأى عنهم كما كان من قبل. لقد أفسدت الحرب مواطنيهم بتشجيعهم إياهم إلى الميل نحو النهب والقتل. حتى تهاوت القوانين”.
الهدف النهائي الذي عمل من أجله بيريز كان إنشاء أسرة إقليمية مكوّنة من أمم مختلفة ذات سوق مشتركة وهيئات مركزية مختارة على غرار الاتحاد الأوروبي. لكن من أجل أن يتحقق هذا الهدف كان على بيريز أن يحارب من أجل ترسيخ أربعة مفاهيم قال إن عليها أن تتغير.
أول المفاهيم هو الاستقرار السياسي في مواجهة الأصولية الدينية الصاعدة التي باتت تستعمل التطور التكنولوجي للترويج لأفكارها، طالما لا يحرّم الدين استعمال التقنيات الفائقة. ولذلك لا حل سوى إنشاء هيكل إقليمي منظم يستطيع التحكم بتلك الحركات وقمعها. أو كما قال بيريز بالحرف “إطفاء نيران التطرف الديني، وتبريد رياح الثورة الساخنة”. يضاف إلى ذلك مفهوم ثان هو استعمال الاقتصاد لرفع مستوى معيشة السكان بشكل مسبق، ما سيخفف من توترات الشرق الأوسط. وهذا لا يتحقق إلا بتأسيس منظمة تعاون إقليمي (سماها فوق قومية) تشكل الرد الحقيقي على الأصولية الدينية. وتتجسد تلك المنظمة في خلق شبكة ريّ مشتركة بين البلدان توقف زحف الصحراء، وتمكنها من إنتاج الغذاء اللازم لها وتوفر فرص العمل لمواطنيها.
أما المفهوم الثالث فهو مفهوم الأمن القومي الذي سيرتكز على الخروج من عصر الصواريخ والقدرات النووية إلى عصر الرقابة والرصد. لا سيما وأننا في القرن الحادي والعشرين قد غادرنا تماماً مفهوم “العمق الاستراتيجي” بفعل تطور القدرات العسكرية. وسيكون على عاتق الإطار الأمني المشترك بين دول المنطقة “منع الضغط على زر مهلك يفتك بالأرواح”.
بيريز يجرب الجلوس على كرسي مستنسخ من النسخة الأصلية في مسلسل "لعبة العروش"هل سنترك العرب مهزومين
المفهوم الرابع هو الديمقراطية التي اتخذ بيريز منها زاوية نقدية، فبعد أن تردد في منحها للشعوب التي تعيش ضغوطاً تنموية وعلمية، اعتبرها مفهوما أساسيا لتأسيس شرق أوسط متطور. فمهمتها ليست الحرية الفردية، كما يقول بيريز، بل صيانة السلام والدفع بالتنمية عبر النقد ووسائل الإعلام الحرة، و”تبديد العوامل الكامنة وراء التحريض الأصولي”. فالأمم الديمقراطية يعتقد بيريز أنها لا تدخل حروباً ضد بعضها البعض. أما الأنظمة الدكتاتورية فهي “مكلفة وغير ذات كفاءة. وتتطلب بوليساً سرياً كبيراً، وجيشاً يلمّع الأحذية، ورقابة دائمة”.
وحتى يوضح بيريز فكرته عن الديمقراطية لجأ إلى الشاعر السوري نزار قباني مقتبساً قصيدة له “كتبها من منفاه”، كما أكد بيريز، يقول فيها “إذا احتاج الطائر إلى تصريح من وزير الداخلية كي يحلّق. وإذا احتاجت السمكة إلى رخصة للسباحة، فسنعيش في عالم لا يعيش فيه طير ولا تسبح فيه سمكة”.
دفع اليهود أثماناً باهظة، قبل أن يتحولوا بدورهم عبر مؤسساتهم العسكرية إلى جلادين كبار، بسبب الأخطاء التي ارتكبتها القوى العالمية. وكان من أبرز تلك الأخطاء السكوت على صعود وتطور النازية. يقول بيريز “لقد أغلق الحلفاء أعينهم وعقولهم عن الخطر الفاشي الداهم” وكان قصر النظر الغربي السبب المباشر في مأساة اليهود. لكن وحده ونستون تشرشل تنبه إلى ذلك الخطر، وقال مبكراً معلقاً على غزو هتلر لوادي الراين “إذا لم تقدّم للطرف المتضرر أيّ وسائل مشروعة للرد، فإن كامل مذهب القانون الدولي والتعاون الدولي الذي ترتكز عليه الآمال بالمستقبل، سوف يسقط مدوياً. وسيحل محله، في الحال، نظام من التحالفات والتكتلات بين الأمــم، بـلا أيّ ضـمانات عـدا سـاعدها الأيمن”.
تقوم نظرية بيريز على فكرة البديل عن الواقع الذي وصلنا إليه. وهو يستلهم التاريخ البعيد تارة والقريب تارة أخرى، لوضع تصوّراته للحلول حول مشاكل الشرق الأوسط. ولذلك كان كثيراً ما يفكر بالآخرـ العدو، سواء في لحظة الحرب أو بعدها. وقد استشهد بما رواه المؤلف الفرنسي جان جاك سيرفان شرايبر بعد زيارته لألمانيا في العام 1948 أي بعد الحرب بثلاثة أعوام. ذهب شرايبر حينها إلى ألمانيا المدمرة، كمراسل للوموند الفرنسية، وقابل المواطنين وشاهد الكثير قبل أن يكتب كتاباً عن رحلته تلك نشره بعد أربعين عاماً منها. قال شرايبر “عدت شديد الاضطراب. هل سنترك الألمان مهزومين؟ عزّلاً؟ مذلين مهانين؟ ألا ينبغي أن نغتنم الفرصة لإنشاء نظام اتصالات تاريخي على سبيل المثال؟ طلبت مقابلة الرئيس الفرنسي فنسنت أوريول، وقلت له: لماذا لا نقترح على الألمان شراكة متكافئة مع فرنسا لتوحيد أوروبا؟”.
لم يستطع بيريز تحقيق ما حلم به، في حياة امتدت من بولندا التي ولد فيها تحت اسم سيمون بيرسكي ولا حين هاجر إلى أرض الميعاد في ثلاثينات القرن العشرين، أو في انخراطه في المؤسسة العسكرية بدءاً من الهاجاناه إلى وزارة الدفاع التي اصطدم أثناء توليه لحقيبتها مع رئيس الموساد إيسار هرئيل ومع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حينها حاييم ليسكوف، وحروبه السياسية التي كان يخفق فيها غالبا، وحتى لحظة وفاته قبل أيام.
لكنه بقي يتذكر ما أجاب به الرئيس الفرنسي أوريول الصحفي شرايبر بعد أن طلب مقابلته وعرض عليه الشراكة مع الألمان المهزومين. قال أوريول “لا يسعنا أن نحقق شيئاً كهذا سريعاً بعد مأساة الحرب. ولربما بعد عشرين عاماً سأفترض بأنك ستكون محقاً، وسيكون جيلك قادراً على التقدم نحو هذه المهمة. أما اليوم فما من أحد سيفهم. ولن نحقق شيئاً سوى تخريب تلك المهمة. فلنتجمّل إذن بالصبر”. تغير بيريز مع الزمن عن بيريز تلميذ بن غوريون، وتتغير المعطيات من حول العرب من كل جانب، بينما يبقون على الخطاب القديم الذي أسست له قيادات مثل عبدالناصر لو عاشت لانقلبت على أفكارها.
إبراهيم الجبين- العرب اللندنية