اتصل بنا
 

الدبلوماسية المصرية.. مدرسة (كان أبي)

نيسان ـ نشر في 2016-10-11 الساعة 14:03

وزير الخارجية المصري في إسرائيل، تساءل الكاتب عن الأخطاء الدبلوماسية التي يرتكبها الدبلوماسيون، وكيف يمكنهم استخدام وسائل دبلوماسية للاعتذار وتجنب الأخطاء المماثلة في المستقبل.
نيسان ـ

في سبتمبر 2015، وصلت إلى القاهرة وزيرة خارجية المكسيك كلاوديا رويس ماسيو، وعقدت مع وزير الخارجية المصري سامح شكري لقاء بقيت منه للتاريخ صورة ستلاحق الرجل، وفيها يقف خاشعا يحتل الحيّز الأكبر، ويتلقى في صمت نظرة ترشقه بها الوزيرة المكلومة. وتلخّصت الزيارة واللقاء والكادر في نظرة تلخّص مصاب بلادها بعد قتل ثمانية سياح مكسيكيين، خطأ في قصف جوي نفذته قوات مصرية في الصحراء الغربية، وراح ضحيته أيضا أربعة مصريين لم يعتذر عن دمائهم مسؤول، فليست لهم وزيرة خارجية تسمى كلاوديا ماسيو.

بعد ثلاثة أشهر، أفاق الوزير شكري من تأثير نظرة الوزيرة الغاضبة، واستأسد في ديسمبر 2015 على “مايك” قناة الجزيرة. حضر الوزير شكري الجلسة الافتتاحية في الخرطوم لاجتماع يبحث قضية “سد النهضة” الإثيوبي، وقبل أن يستريح في مقعده، أدى حركة ثنائية في خمس ثوان، فتح بيده اليسرى زر الجاكيت وباليمنى أخفى “مايك” القناة القطرية. ويفترض أن الأزمة المطروحة أكبر من المايك والجزيرة وقطر، ولكن الناس يشغلهم ما يفضح تفكيرهم، فتعظم في عين الصغير صغارها.

وفي يوليو 2016 زار الوزير شكري إسرائيل. هو دبلوماسي يؤدي دورا في حدود مهام وظيفته، وليس من هذه المهام ما نشره مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو موثقا بالصور لزيارة الوزير شكري لمنزل نتانياهو في القدس المحتلة، وقد لازمته الابتسامة وهو يشاهد مع رئيس وزراء العدو مباراة كرة قدم.

وفي المؤتمر الصحافي كان شكري مزنوقا بين نتانياهو على اليسار، وتمثال ضخم لرأس تيودور هرتزل إلى اليمين. ألم تكن هناك وسيلة للفكاك من هذا الفخ، الكادر الفوتوغرافي، وتجنب رأس هرتزل؟

لا يعدم الدبلوماسيون الأذكياء، غير الموظفين، وسائل دبلوماسية للاعتذار، في بلادهم وخارجها. كان أنور السادات طاووسا يزهو بانتصار 1973، ولكن طموحه الاستعراضي حين تعارض مع الثوابت الوطنية، وأعلن عن نيته الذهاب إلى القدس، اصطدم باستقالة إسماعيل فهمي وزير الخارجية اعتراضا على الفكرة غير المدروسة، واستقال الوزير التالي للخارجية محمد رياض للسبب نفسه، أما الوزير الثالث للخارجية محمد إبراهيم كامل، فاستقال في كامب ديفيد رفضا لتنازلات السادات.

وحين رأيت رأس هرتزل يعلو رأس الوزير شكري ويكاد ينقضّ عليه، تذكرت ما سجله محمد إبراهيم كامل في كتابه “السلام الضائع في كامب ديفيد”، إذ رفض الوفد الإسرائيلي في مباحثات اتفاقية السلام دخول فندق فلسطين بالإسكندرية، وكان “معدا للمباحثات لمجرد أنه يحمل اسم فلسطين. وفي المقابل أصر مناحم بيجن، في ما بعد، على ضرورة عقد المباحثات الخاصة بالحكم الذاتي الفلسطيني في القدس بوصفها عاصمة إسرائيل الأبدية”.

لم يكن الوزير شكري ليرفض دلالة هذا السياق، فيقترح مكانا آخر للمؤتمر مع نتانياهو، وقد فسّر لنا هذا الهوان إبداؤه الألم لفراق شمعون بيريز في جنازته (30 سبتمبر 2016). وإذا كان مكلفا بحضور الجنازة، فلا يتضمن البروتوكول التباكي على قاتل محترف، اعتبره الأكثر خطورة في الصهيونية منذ هرتزل حتى آخر مسؤول في كيان عنصري غير طبيعي قدّر أرنولد توينبي عمره بمئة عام.

لم تعد الدبلوماسية المصرية مدرسة يزهو المنتمي إليها فيقول “ها أنا ذا”. سأضرب مثلا بمحمود عزمي (1889-1954)، أحد رموز التنوير الوطني، وله موقف مشهود في التحذير من فتنة مادة الدين في دستور 1923، في مقال عنوانه “العقيدة الدينية في لجنة الدستور”، نبه إلى أن وجود نص دستوري على أن “للدولة دينا رسميا.. سيجر على البلاد ارتباكا قد ينقلب إلى شر مستطير.. سيأتي وقت على سكان مصر في هذا القرن العشرين فتقطع الأيدي والأرجل من خلاف.. نحن نلفت النظر وسنستمر في لفت النظر إلى الخطر المحدق بنا الذي يجيء عن طريق هذا النص”. وتوفي عزمي في مقر الأمم المتحدة في 3 نوفمبر 1954، وهو يلقي كلمة مصر عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي ونكّست لموته الأعلام.

أستدعي عزمي نموذجا للمثقف الوطني، لأقارنه بموقف كنت شاهدا عليه مع هيئة تحرير مجلة “سطور”، بعد الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت حين اقتحم أرييل شارون المسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000. جاءنا من يشتري نسخا من كتاب كارين أرمسترونج “القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث” وقد نشر في نيويورك عام 1996، وصدرت ترجمته العربية عن دار سطور عام 1998. قال الرسول إنهم في الخارجية يحتاجون هذه النسخ ليعرفوا تاريخ المدينة! بدا لي هؤلاء تلامذة فاجأهم الامتحان، فاستعجلوا المتاح من الإسعافات الأولية لتنقذهم بمراجعتها، وهم على أبواب لجنة امتحان يكرم فيه الطالب أو يهان.

لم يكن مطلوبا من الوزير شكري أن يهتف بسقوط إسرائيل في جنازة بيريز، يكفي لكبح دموعه غير البروتوكولية أن “يذاكر” ماضي بيريز، وربما يلخصه كتاب “ستون عاما من الصراع في الشرق الأوسط.. شهادات للتاريخ”، وهو محاورات أجراها أندريه فيرساي مع بيريز وبطرس بطرس غالي، سلف الوزير شكري. في الفصل الأخير “وماذا عن الغد؟” يقول بيريز “لن نستطيع العودة إلى الترسيم الدقيق لحدود يونيو عام 1967.. يجب أن نكون واضحين: إسرائيل لا تنوي الانتحار من أجل إرضاء الفلسطينيين؛ إذا حصلوا على حق العودة، فإن الخاصية اليهودية للدولة الإسرائيلية ستضيع”.

للوزير شكري سلف آخر يشبهه، اسمه سعد مرتضى، أول سفير عربي لدى الاحتلال، وسجل تجربته في كتاب “مهمتي في إسرائيل”. يروي أن بيريز زعيم حزب العمل المعارض آنذاك دعاه إلى بيته في أبريل 1980، لحضور احتفال بعيد الفصح، عيد التحرر من العبودية في مصر وفقا للأسطورة التوراتية.

اجتمعت الأسرة حول المائدة، وتلا بيريز جانبا من صلاة عن معاناة اليهود على أيدي المصريين، وقرأ أفراد الأسرة فقرات أخرى، “وكرب بيت مجامل اعتذر لي المستر بيريز عما في تلك الصلوات من إساءة للمصريين، وقلت له إنني لا أمثل مصر الفراعنة، ولكنني أمثل مصر الحديثة!”. لو أن لدى السفير حدا أدنى من العلم والوعي والفطنة لأوضح لبيريز أن “أسطورة الخروج” عقيدة دينية لهم أن يؤمنوا بها ولنا أن ننكرها، ولكنها غير ثابتة علميا ولا يؤيدها دليل تاريخي أو أثري. ولو صحت، فهي لا تبرر تحوّل اليهود إلى جلادين لضحايا أبرياء ليسوا من أحفاد “الفراعنة”.

يبدو أن لدى الوزير شكري والسفير مرتضى شعورا ورثه الموظف المصري العتيد، بالسمع والطاعة، بعيدا عن تراث “مدرسة الدبلوماسية المصرية”. كلاهما ينتمي إلى مدرسة السادات الذي صمت على قول بيجن إن كارتر بذل جهدا “يفوق العمل والجهد اللذين بذلهما أجدادنا عندما بنوا الأهرامات في مصر”. وأي دارس للتاريخ المصري يعرف أن الأهرام بنيت في الأسرة الرابعة، (2613 ـ 2494 قبل الميلاد)، قبل قرون من زيارة أسطورية للنبي إبراهيم لمصر.

نيسان ـ نشر في 2016-10-11 الساعة 14:03


رأي: سعد القرش

الكلمات الأكثر بحثاً