اتصل بنا
 

مواطنو العالم أو مواطنو الجزيرة

نيسان ـ نشر في 2016-10-11 الساعة 14:12

تيريزا ماي تهدد بفقدان التنوع الثقافي والجاذبية السياحية للعاصمة البريطانية بسبب حملتها ضد الغرباء وتمجيد المحلي على حساب الأجنبي، مشابهة لموجة شعبية اجتاحت العالم العربي بعد الثورات والثورات المضادة. الحكومة البريطانية تتبنى رؤيةً ضيقةً للوطنية تنبذ الأجنبي وتفقد مساهمات الغرباء في مختلف المجالات، مما يشكل تهديدًا للاقتصاد والثقافة الوطنيين.
نيسان ـ

شيء ما في مناخ المدينة فقد بريقه، أو على الأقل ما يتفق سكان المدينة على أنه روحها وسرّ جاذبيتها. كان يكفي أن تعلن رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عن برنامجها، أو نياتها على الأرجح، بما في ذلك حملة شيطنة للغرباء العاملين في البلاد عنواناً عريضاً، حتى تفقد شعارات التنوع الثقافي التي شكلت، وقتاً طويلاً، الطابع الرئيسي للعاصمة البريطانية بريقها أو قدرتها على الإقناع لدى هؤلاء الذي لجأوا إليها أساساً لتنفس ليبراليتها. كان يكفي أن تختار الحكومة خيار "إنكلترا الصغرى" في تقديم "الغرباء" أنهم المشكلة الأساس للمواطنين المحليين، حتى تفقد مساهمات هؤلاء "الغرباء"، في مختلف المجالات، قيمتها المعنوية، والتي جعلت من لندن نقطة جذب للطاقات من العمالة الصغيرة إلى كبريات مشاريع الاستثمار.
تبدو الرؤية الضيقة لرئيسة الوزراء لما تسميها "وطنية" تقوم على تمجيد المحلي ونبذ الأجنبي، نسخة مصغرة (أقلّ تطرفاً وليس أقل خطراً) لموجةٍ شعبيةٍ اجتاحت العالم العربي في سنوات ما بعد الثورات والثورات المضادة، يروجها الإعلام المحلي، وتقدم "الوطنية" الصافية من أي تأثير خارجي على أنها الحل لكل مشكلات ما بعد الثورات وما قبلها. وهي موجةٌ اتخذت الأشكال الأكثر بشاعةً، وصولا إلى تصوير أي أجنبي عدواً أو جاسوساً محتملاً وتوقيفات اعتباطية لصحافيين وناشطين وزوار عاديين. مثلاً، قدّم إعلان مصري للهواتف المحمولة مثالاً معبّراً لفاشية كره الأجانب، إذ دعا المصريين إلى التبليغ عن أي أجنبيٍّ يسألهم عن أحوالهم ومعاشهم، باعتباره مؤشراً على الخطر القادم من الخارج. ليست موجة إسكات "أعداء الداخل" أقلّ ضراوةً باعتبار من يسمون "أعداء الداخل" الأكثر خطراً على مفهوم الوطنية الضيقة القائمة على أوهام فرادة خاصة للمحلي في وجه الخارجي.
أثار إعلان الحكومة البريطانية تبنّي خطةٍ متطرفةٍ لعملية الخروج من الاتحاد الأوروبي ردّات فعلٍ غاضبة، إلا أن ما تقدمه الحكومة يذهب أبعد بكثير من مجرّد مواجهة مأزق الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى فرض رؤيةٍ مختلفةٍ للبلاد في علاقتها مع الخارج، وبالوافدين من الخارج الذين يقدّمون مساهمات أساسية في مختلف مجالات الاقتصاد والثقافة الوطنيين. شكل تلميح
"أطلقت الحكومة البريطانية حملةً شعواء على الأجانب، وهي حملةٌ كان بالإمكان توقعها في مصر الجنرال عبد الفتاح السيسي، ويصعب استيعابها في عاصمة الرأسمالية" وزيرة الداخلية إلى إمكان الطلب من الشركات الإعلان عن موظفيهم الأجانب من باب "التشهير" بالشركات التي تقدّم وظائف لهم على حساب أبناء البلد إشارة الانطلاق لمرحلةٍ جديدةٍ في هوية البلاد، باعتبارها جزيرة معزولةً عن محيطها تتطلع إلى الداخل، وإلى الماضي، في قطيعةٍ مع تقاليد الانفتاح التي جعلت البلاد، حتى وقت قريب، متميزةً عن جيرانها الأوروبيين في القدرة على توظيف التنوع الإتني والثقافي، باعتباره إغناءً وليس تهديداً، وفي قدرة العاصمة البريطانية على التحول إلى نقطة جذب للساعين إلى فرص الخلق والاستثمار.
كتبت صحيفة "ذي أوبسرفور" اليسارية، في افتتاحيتها، تعليقا على خطة الحكومة لبريطانيا مختلفة، أن ما تقدمه الحكومة المحافظة يبدو "بشكلٍ متزايدٍ تراجعاً عن تقاليد بريطانيا الليبرالية الجامعة والمنفتحة، والعودة إلى العالم الضيق والواهم لإنكلترا الصغرى". وصل نقد الحملة التي أطلقتها وزيرة الداخلية للضغط على تشغيل الأجانب إلى حد تشبيه لغتها بخطاب هتلر والنازية.
حتى قبل انتقالها إلى حيّز التطبيق، نجح خطاب الحكومة في إطلاق مناخٍ جديدٍ من القلق لدى "غرباء" البلاد، وهو مناخٌ مقلق معنوياً، باعتباره ارتداداً على الدور الإيجابي الكبير الذي يقدّمه هؤلاء الغرباء، وأمنياً باعتبار تصريحات رئيسة الحكومة بمثابة الضوء الأخضر لتشجيع مزيد من الاعتداءات العنصرية التي شهدت البلاد تزايداً كبيرا لها، منذ التصويت السلبي على البقاء في الاتحاد الأوروبي.
أطلقت الحكومة حملةً شعواء على الأجانب، وهي حملةٌ كان بالإمكان توقعها في مصر الجنرال عبد الفتاح السيسي، ويصعب استيعابها في عاصمة الرأسمالية. في سخريتها من "مواطني العالم" الذين وصفتهم بأنهم "مواطنو لا شيء"، سخرت تيريزا ماي من الحريات الفردية التي تشكل القيمة الليبرالية الأكثر أهميةً، وقد تشكّل الهوية الأكثر انتشاراً التي يفخر بها أبناء العاصمة بشكل خاص، بمن فيهم المواطنون الأصليون. هاجمت ماي النخبة الليبرالية التي تشكّل الركيزة الرئيسية لرؤية ترى في بريطانيا لاعباً عالمياً مهما خلافاً لـ"إنكلترا الصغرى" المنطوية على نفسها التي تريدها حكومة المحافظين. الأخطر هو تحويل هذه النخبة في المخيلة الشعبية إلى "عدو الداخل" الذي يتنكّر لواجب الدفاع عن أبناء الوطن لحساب الغرباء "سارقي" الوظائف والفرص، والمتنعمين بنعيم الليبرالية النخبوية.
ليست كراهية الأجانب أمراً حديثاً، بل مادة يومية للصحافة الصفراء، تغذّي التوجهات الانطوائية للبريطانيين من الطبقة العمالية، وصولاً إلى الطبقات الميسورة. نجح المحافظون في سنوات حكمهم البلاد في تحويل الخوف من الاغتراب والغضب من آثاره السلبية إلى سلاحٍ انتخابي فاعل، في ظل أزمات إقتصادية وسياسات تقشّف حكومية. انتقال هذه الكراهية من صورة المغترب "سارق" المعونات الاجتماعية التي تقدّمها الحكومة إلى المغترب "سارق" فرص العمل (ليس فقط العمالة الصغيرة، وإنما أيضا المراكز التي تتطلب كفاءة خاصة، ويخضع التوظيف فيها إلى نسق تنافسي) تحول خطير من شأنه أن يقود إلى هجرة هذه الطاقات، في ظل ظروف اقتصادية ستتزايد سوءاً، مع إطلاق عجلة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
هذه ليست القاهرة. لا. إنها لندن.

نيسان ـ نشر في 2016-10-11 الساعة 14:12


رأي: فاطمة العيساوي

الكلمات الأكثر بحثاً