اتصل بنا
 

ولع لا شفاء منه

نيسان ـ نشر في 2016-10-23 الساعة 11:30

يكون غير تقليدي وعميق المعنى، وهذا يعكس مفهوم التناص الذي يتمثل في وجود تشابه بين نصوص مختلفة. لوحات الفنان أوديل رودون تعبر عن هذا المفهوم بشكل بصري عميق، حيث تظهر الأحصنة المتشابهة وهي تجرّ مركبة أبولون في اتجاهات مختلفة ولكنها تعمل معًا كمجموعة وتحقق الهدف المشترك. واختيار إحدى هذه اللوحات لتواكب مؤلف أدبي غير تقليدي يعكس استخدام مفهوم التناص في الأدب والفن المعاصر.
نيسان ـ

يُفسّر مفهوم التناص بأنه “مُصطلح نقدي يُقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص”، لا أعرف لأي مدى لا يزال ممكنا اعتبار هذا التعريف مُنصفا بحق كلمة تكاد اليوم تختصر كيفية العيش في هذا العالم، ولعل التجسيد البصري لهذا المفهوم بلغ أوجه، على الأقل بالنسبة إلي، في سلسلة من اللوحات للفنان أوديل رودون تحمل جميعها عنوان “مركبة أبولون”.

اللوحة رسمها الفنان تأثرا بمشاهدته لجدارية للفنان دولاكروا تحمل الموضوع ذاته، وهو انتصار أبولون على الأفعى الأسطورية التي نشرت الموت في مدينة ديلف.

اختار الفنان التمعن بالمشاهد الداخلية/الإنسانية دون أي قيد أو شرط، وإذا كانت الأحصنة التي تجرّ مركبة أوبلون واضحة المعالم والمسار في لوحة الفنان دولاكروا، فهي في مجموعة الفنان رودون شبه متداخلة وبعضها يشفّ على بعضها الآخر.

الأهم من ذلك كله، وما يجعل هذه اللوحات تعبيرا بصريا عميقا عن مفهوم التناص، هو كون الأحصنة “المتشابهة” تركض في اتجاهات مختلفة، وهي بالرغم من ذلك قادرة “كمجموعة” على جرّ المركبة الذهبية بقيادة أبولون.

تجرّها مُدركة طريقها عميقا وبعيدا في زرقة السماء، تماما كنص أدبي متكامل يسير ثابتا على درب “صهيل” نصوصه الخفية التي تنبض تحت سطحه لتُشكل غناه المتمثل في شبكة من المعاني.

اختارت دار نشر فرنسية وضع إحدى هذه اللوحات على غلاف مؤلف أدبي ثوري للكاتب لوكونت موتريامون وهو “أغاني مالدورور”، فالفنان رودون تأثر بهذا المؤلف شأنه شأن العديد من الفنانين السرياليين والرمزيين.

اختيار هذه اللوحة دون غيرها من اللوحات لتواكب نصا تميز بسياقه السردي غير التقليدي، حيث تتعاقب الأفكار وكأنها تشكل طبقات مُضيفة إلى المعنى بعدا “غير طولي”، بل عمقيا ليشبه لوحة فنية ديجيتالية لها أبعاد ثلاثة، هو اختيار جعلني أجد في هذه اللوحة تمثيلا بصريا لمفهوم “تناص” معاصر.

لعل تأثري بهذا النوع من السرد، شجعني على القيام بمغامرة خطرة عندما أنتجت برنامجا تلفزيونيا بعنوان موارب هو “قصة لون”.

تجربة وضعتني تحت مجهر المُساءلة، وبالتالي تحت خطر التوقف عن البث، اعتمدت على مبدأ التناص ما بين عدة وسائط سمعية وبصرية وكتابية لإيصال المعنى الذي غالبا ما نحا بعيدا “خارج النص” دون أن يكون قد خرج عنه فعلا، بل قدمه بسلسلة من الاشتراكات بدت أحيانا غرائبية، وكنت في أحيان كثيرة أعتمد على مونتاج ثوان منفصلة عن بعضها البعض لأقيم المعنى.

أقرّ مُبتسمة “لم تكن يوما ‘قصة لون’، قصة اللون الأخضر أو غيره، بقدر ما كانت مَخرجا إلى عوالم ‘تناصية’ تلاقح فيها الشخصي بالعام”.

ركضت وراء الأفكار والحوادث والتجارب المؤثرة التي حدثت أو لم تحدث أو تلك التي سعيت إلى حدوثها كفراشة دارت بشغف حول “المعنى” قبيل الاحتراق، احتراقي أو احتراقها، كنت أشعر بحلاوة التهديد الدائم، ولم يكن ذلك سوى محفز إضافي للمُضي أكثر فأكثر في المغامرة.

ربما ما شفع للبرنامج وجعله يستمر لمدة ثلاث سنوات أنه كان يُعرض في الفترة الصباحية، ما بين برامج الطبخ والعناية بالأطفال.

أعترف الآن وبعد مرور سنوات على هذا البرنامج بأنني بلغت أعلى قمم الخاص جدا في ذلك التناص اللذيذ “غير الآبه” بالنتائج، حينما قدمت حلقتين من ضمن الحلقات المخصصة للأحمر متوجهة فيها إلى شخص واحد دون غيره من البشر، وضربت عرض الحائط بمنطق “الماس ميديا” المتوجه إلى كل الناس، كم كانت الفرحة عارمة حينما اكتشفت أن ما تناولته لم يصل فقط إلى هدفه “السري”، بل بلغ العديد من المشاهدين الذين اتصلوا بي تقديرا لما قدمه البرنامج.

رُفع هذا البرنامج، على الأقل بالنسبة إلي، إلى مقام الأسطورة “الملعونة” عندما تعرضت محطة التلفزيون إلى الاعتداء، احترقت حلقات “قصة لون”، نجت منها بضع حلقات كنت قد نسختها “للذكرى”، هي نُسخ عن “الأصل”.

هي الأصل في تكريس منطق العيش كإنسان أولا وكامرأة ثانيا في حياة لا يمكن إلاّ أن تكون تجربة وجودية شاملة مفتوحة على كل الاحتمالات، حتى تلك الأكثر جنونية.

نيسان ـ نشر في 2016-10-23 الساعة 11:30


رأي: ميموزا العراوي

الكلمات الأكثر بحثاً