اتصل بنا
 

التراب الر حيم

نيسان ـ نشر في 2016-11-07 الساعة 09:07

فقدان الفرصة للتحدث مع الأحباء قبل وفاتهم
نيسان ـ


لا تتاح لنا الفرصة لقول ما نريد. خصوصاً لأهلنا، أصدقائنا. نقول: سنحكي معهم غداً، أو بعد غد. سنخبرهم أموراً ضاعت في زحمة الأشياء.. عندما تحين الفرصة. لكن هذه الفرصة قد لا تأتي أبداً. لأن الموت، الكادح الكوني الرهيب، لا يتوقف، ثانيةً، عن عمله الكئيب. وفيما نذهب إلى اللهو، إلى النوم، إلى الحمام، ننزل إلى أقبية العالم السلفي، لا يأخذ هذا الكادح الكوني فرصةً لالتقاط الأنفاس، لاستراحة شاي، أو قهوة. هكذا لم أستطع أن أقول أشياء كثيرة لأصدقاء خطفهم الموت، فيما كنت أظن أن هناك وقتاً، مثلاً: كنت، مصادفةً، في عمَّان لمّا سمعت أن صديقنا جهاد هديب خرج من المستشفى.. بعدما وصلت معاناته مع السرطان، داء العصر الخبيث، إلى نهاية الطريق. فعندما يفضّل الأطباء ذهابك إلى البيت، تحت سيف السرطان المسلط، فهذا يعني أن أيامك صارت معدودةً، ومن المستحسن أن تقضيها في مكان أُلفتك بدلاً من أجنحة المستشفيات المُشبعة برائحة الأدوية والمطهّرات. هذا ليس خبراً ساراً لمريض السرطان مع أنه ذاهب إلى بيته. وهو ما كان يتمناه دائماً.
كيف يكون وقع خبرٍ كهذا على مريض السرطان؟ لا أعرف. ولم تعرف أمي التي ماتت من دون أن تعرف، أصلاً، أنها مصابةٌ بهذا الداء. لكنّ جهاد هديب، الشاعر، الذي صدَّق الشعر واعتبره ملاذاً عندما لا ملاذ، كان يعرف. كأنهم قالوا له: لم يعد لدينا ما نقدّمه لك، فاذهب إلى ملاقاة موتك في سريرك العائلي. فارق الحياة، والشعر والأصدقاء، وكل ما كرهت وأحببت، من المكان الذي دببت فيه أول مرة.
2
المريض، أياً تكن خطورة مرضه، يُبقي الأمل أقرب إليه من حبل الوريد. يصبح الأمل اسمه الأول وكنيته الأولى. تتراجع باقي الأسماء والاعتبارات، والعقلانيات إلى مرتبة ما دون الأمل المقدود، في الحالة المستفحلة، من معدن الغيب والرجاء. فللأمل، هنا، شكل المعجزة الأرضية أو الإلهية. منفصل عن الوقائع والاعتبارات. كوكبٌ غامضٌ قائمٌ بذاته. يتصارع الأمل مع الألم على الجسد والعقل، ويتناوبان الحضور والأدوار. وهما، في اللغة العربية، يتشاركان الإيقاع والحروف. هذا ما تقرأه في كتابات المشرفين على الموت، من سعد الله ونوس الذي وضع مطالعةً مريرة، عن حاله تحت تهديد مرضه القاتل، إلى جهاد هديب الذي نشرتُ له، في "ضفة ثالثة"، بمعونة صديقنا المشترك معن البياري، يومياتِه التي كتبها على سرير المرض. الأمل والألم هما الجوهر العميق لتلك اليوميات الشجاعة. ففيها تحديقٌ، مباشر، بالموت، وفيها استدراجٌ حزين لطائر الأمل. لا نواح في يوميات جهاد ولا تفجّع. وهو الذي لم يكن قادراً على لفظ كلمات: أم، أخت، أصدقاء. أمل. بعدما سدَّ السرطان مجرى الطعام والشرب والكلام.
ولكن، قبل أن تصل إليّ تلك اليوميات من معن، كنت في عمَّان. سألت صديقاً مشتركاً: كيف تمكن زيارة جهاد. فقال: إنه لا يرغب بزيارة أحد. ذهب إلى بيت ذويه، هو الذي أشرف على الخمسين ولم يبن بيتاً ولا عائلة خاصة به. وفي بيت العائلة قرَّر أن يعتكف، بلا أمل يُذكر هذه المرة. وهذا ما لا تقوله اليوميات التي لم يعد قادراً، كما يبدو، على كتابتها.
قال لي صديقنا المشترك، وهو أقرب إلى جهاد مني: من الأفضل أن تحتفظ بآخر صورةٍ له في ذاكرتك. فقد غيّره المرض كثيراً.
قبل عام، بالضبط، مات جهاد وأنا في عمَّان. فذهبت الى بيت العزاء. قلت في نفسي ما كنت أرغب في أن أقوله في وجهه المُبَاغت، دائماً: قصائدك الأخيرة جميلة. يبدو أنك عثرت على نغمتك يا جهاد. ومحظوظٌ من يفعل. لكنه لم يسمعني بالطبع. كان قد عاد إلى التراب الرحيم، بعد رحلة عذابٍ طويلةٍ مع الألم والأمل.

العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2016-11-07 الساعة 09:07


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً