اتصل بنا
 

انفلات الشرعيات الفلسطينية

كاتب صحافي

نيسان ـ نشر في 2016-11-10 الساعة 10:01

انحلال الشرعية الدستورية في فلسطين: طامة كبرى تعادل نكبة أخرى
نيسان ـ

مر زمان على موت الشرعية الثورية الفلسطينية ودفنها، وها هو زمان آخر يمر على بدء انحلال الشرعية الدستورية وانفلاتها، إلى حد أن يميتها أصحابها، من دون نعيٍ أو نيةٍ لدفنها، فهي، في حشرجاتها الأخيرة، ما تني تقوم مقام تحطيم الأواني في كل فضاء تدخله، وهي الحريصة على بقائها، ولو هيكلا عظميا، أو "خيال مآتة" الزرع الذي لم يعد يحرسه أحد، بل بات مشاعاً وغنيمةً لمن سبق، ولمن سرق، ولمن لم يعد يرى في قضية الشعب الفلسطيني الوطنية همّه الأول، أو قضيته الأولى؛ وتلك طامّة كبرى، تعادل، في مفاعيلها وفي تداعياتها، نكبة أخرى من نكباتٍ لا ينبغي إدمانها، أو إدمان رؤيتها تُستعاد وتتكرّر، على مدى أجيال، يفترض أنها وقد تعلمت من دروس الماضي، واكتسبت وعياً نفاذاً، ترفض بموجبه الانجرار خلف طموحات بعض الأفراد، وأطماع بعض الفئويات الفصائلية، للبقاء سيدة سلطةٍ مضاعة تحت الاحتلال، ومالكة زمام المغانم السلطوية بالشراكة معه، وبالنيابة والوكالة عن شعب القضية وهويته الوطنية التي بات بعضهم يألف مغامرة أو مقامرة إضاعتها، أو التسبّب في ضياعها وتبهيتها، بعد نصاعة سنوات الكفاح في الذود والدفاع عنها.
خسرت القضية الوطنية شرعيتها الثورية، وهي تُقاد إلى نفق العملية التفاوضية، على قاعدةٍ من أحلام تكسّرت من أول الطريق، لكن أوهام "حل الدولتين" ما تني تنجح في حرف المسار الكفاحي إلى جانب الانحراف القائم والمتفاقم في المسيرة التفاوضية، جرّاء المراوغات والمماطلات والأكاذيب الإسرائيلية، وهي تنطلي، مرة بعد مرة، على الجانب الفلسطيني الذي يعود، في كل مرة، إلى طاولة المفاوضات، من دون أن يخسر الإسرائيلي شيئاً، فيما هو يواصل سياسات التطهير العرقي، ليربح مزيداً من الأرض، وليقيم عليها مستعمراته الاستيطانية، غير القابلة للانسحاب منها، على غرار ما جرى لمستوطنات قطاع غزة، بل يجري "التفكير" بمبادلتها بأراض صحراوية في النقب.
فيما الفلسطيني، وقد طاولت فواتير خسائره أرضاً وممتلكات، وأكلت من أعمار أجياله، يسلب يومياً ما يملك أو ما كان يملك، على مذبح وعودٍ كاذبةٍ، هي مجرد أوهامٍ، لا تجد من يصدقها

سوى العامدين لتصديق الأكاذيب "لغايةٍ في نفس يعقوب"، حيث أثبتت الأيام أن همّه الأول يتركّز في خشيته من فقدان سلطته التي كرّسها بفعل جدل المال والسلطة، على حساب التزامه بجدل القضية والثورة، أي لشرعيته الثورية، وقد جرى استبدالها فيما بعد بشرعيةٍ شبه دستورية؛ باتت هي الأخرى متهالكة ومتقادمة، حتى لم يعد في الوسع تجديدها، ولو في الحد الأدنى الخدماتي، كما تجلى، أخيراً، في إلغاء الانتخابات المحلية البلدية؛ فأي إمكانيةٍ لإجراء انتخابات عامة تشريعية ورئاسية، لتجديد دماء النظام السياسي، بعد كل تلك السنوات العجاف التي انقضت ومضت على ضرورة وجوب استحقاق إجرائها، لكنها طاولت بتداعياتها حتى "الاستحقاق" الانقسامي، ولم يزل يطاولها ويصيبها بمقاتل وإصابات مميتة عديدة.
كل هذا والوضع الوطني والنظام السياسي أحوج ما يكونان لإعادة الاعتبار لمؤسسات منظمة التحرير، حيث لم يعد يلحظ لها أي دورٍ في الحياة السياسية الفلسطينية، وهو أمر يتوافق والموقف الإسرائيلي الاستفرادي بمؤسسات سلطةٍ مسيطر عليها، وممسوكة عبر التنسيق الأمني المستمر والمتواصل، على الرغم من قرار للجنة التنفيذية والمجلس المركزي، منذ عام ونصف العام، قضى بضرورة وقف هذا التنسيق، والاتجاه نحو إعلان دولة فلسطين، وهو ما لم يتم حتى اللحظة، انسجاماً وانحيازاً لعلاقة السلطة بالاحتلال.
في طيات معطيات هذه هي سماتها العامة، هناك ما يمكن أن يقال عن حراكاتٍ غير شرعية وغير دستورية، وهي لا تتوافق، بالمطلق، مع شرعية النظام السياسي الفلسطيني ودستوريته، وهو المشرذم أصلا، حتى داخل إقطاعيات السلطات الفئوية الحاكمة على جانبي الانقسام السياسي والجغرافي، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ لا سيما في ظل حالاتٍ من النكوص والتراجع عن اتفاقاتٍ سابقة، بقيت حبرا على ورق، وقد جاءت خطوة الدعوة إلى عودة حكومة إسماعيل هنية إلى مزاولة عملها، بعد ما قيل عن تخلي "الحكومة الوفاقية"، برئاسة رامي الحمدالله، عن واجباتها تجاه غزة، لتشكل آخر فبركات تعليل استمرار الانقسام وتبريره، وهذا ما قرّرته كتلة "حماس" في المجلس التشريعي بالإجماع، أخيراً، في دراسةٍ أوصت بها.
في ظل الفوضى الدستورية وشرعياتها المتضاربة، الناقصة والمنتقصة من ذاتها ومن أخرياتها،

من غير المفهوم كيف يمكن لحكوماتٍ أو لأشباه حكومات، وما يوازيها، أن تقوم بمهامها في وضعٍ لا تلتزم واحدتها شرعية الأخرى أصلاً، ولا تعترف بها كونها انقلابية، والأخرى غير شرعية، وهكذا يستمر المنوال السلطوي يغزل ويغرّد، كل وفق هواه ومصالحه الفئوية والزبائنية، ولا عزاء لمن يتوانى، أو يتقاعس عن مهامه الفئوية.
أما المهام الوطنية فهي، للأسف، مما لم تعد ملزمةً لأحد، وهي التي جرى ويجري إغراقها في بحار من التشرذم والتفتيت، حتى الفئوي داخل الفصيل الواحد. ما بات يؤثر على مفهوم الوحدة الوطنية في واقعٍ، إحدى سماته الأبرز أنه يحتضن حركةً وطنية تحرّرية، وأحوج ما يكون إلى وحدةٍ وطنية كفاحية، ترتقي إلى أن تكون جبهةً وطنيةً شعبيةً عريضةً متنوعةً ومتعدّدة، تنتظم تحت راية برنامج كفاحي تحرّري بديل لذاك البرنامج السلطوي الذي بات عبئه ثقيلا، وأثقل من أن يحتمل، وحتى هو ذاته بات يثقل على الحركة الوطنية الفلسطينية، في وقتٍ باتت تكاد تفقد مبرّر وجودها السياسي الفاعل. فأين تقبع المخارج الملزمة للخروج عن هذا النمط من تسيير الأمور وتسييلها، حتى لتكاد تغرقنا جميعاً، ومن جديد، في بحارٍ من الدم والدموع، والخراب المتناسل في أكثر من فضاء وطني وإقليمي، يشهد لغياب العقل واستباحة العقلانية؟

العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2016-11-10 الساعة 10:01


رأي: ماجد الشيخ كاتب صحافي

الكلمات الأكثر بحثاً