(عين الشرق).. رواية تفتح نافذة سورية على الأمل
نيسان ـ نشر في 2016-11-22 الساعة 10:05
كتب محمد قبيلات..تتضافر خيوط الأشعة، بتزامن مدروس، لتتجمع في عين الشرق، صانعة الصور المشحونة بالدلالات، المثقلة باستنتاجات الفتى القادم من دير الزور، المجللة ملامحه على الدوام بألوان الدهشة والانبهار بالمدينة، لا لتمدنها، بل لقدرتها الجبارة على ابتلاع القادمين إليها، من كل فج عميق، من دون هضم، غير آبهة بما يترتب على ذلك لاحقا من إعسار.
تدور أحداث رواية إبراهيم الجبين في دمشق (المكان) وتراوح زمانيا بين الراهن والموغل في القدم، لكنها أحداث وتصويرات تطمح لشرح المشهد الحالي، الذي أصبحت فيه عين الشرق عينا للعاصفة، فتستدعي عناصر لفّها الزمان وطرحها على رفوفه الخلفية ضمن تصنيف ماضوي تتجاذبه التفسيرات المتحيزة لمصالح رواتها.
استدعاء مدروس يتقصد من كل تفصيلة أكلها الزمان، إعطاء المكان روحه والتنقل بين جنباته وهو المتفاوت ضيقًا واتساعًا، لصناعة الدلالات النفسانية، والإيحاءات الشعورية المتنوعة، بهدف إعادة تشكيله من جديد، باعتباره حاضنًا لأحداث حركة الانسان المستمرة، التي طالما أطرت الأزمنة ووهبتها نكهاتها المعتقة والطارئة.
يفتح الجبين كل إضبارات دمشق، السرية والمعلنة، الخاصة والعامة، ويسحبنا معه إلى آخر شوط السرد الذي نسقه على هواه بالتزامن الذي أراده، من دون خلط أو ارتباك في انسجام القص الصاعد إلى قمة التشويق، وبتعبير أدق، سحب القارئ إلى خيط السرد الواهن حد الخوف من الانقطاع فيبقى مشدودا كالمسحور، لينقله الراوي بين سير شخوص معروفة، لكن لها طعم جديد بحكم إعادة الكاتب لترتيب أدوارها على مسرح الحياة الثقافية الدمشقية اليومية.
بذلك، يخوض الكاتب تجربة، هي بحكم المغامرة الخطرة، يتمادى فيها ليرسم صورا جديدة لمكونات طالما تحصّنت في منطقة حوصرت بتنبيهات عدم الاقتراب، وممنوع الدخول، وأُطر المسكوت عنه، بما فيها صورة اليهودي الشرقي(العربي) الذي تآمرت عليه الأنظمة- إن صحت تسميتها أنظمة- لتهجيره إلى الكيان المفتعل الجديد.
ويواصل الجبين مغامرته بنبش مكونات المجتمع وتقسيماته، على أسس غير طائفية، بل تعتمد التحليل المادي غير المجامل، فيتحدث عن " طوشة النصارى" وعلاقتها بانتاج الحرير، وعن مقدمات التباغض الطائفي، الناتج عن وقوف بعض المكونات إلى جانب الغزاة؛ انحيازا لمصالحها الفئوية، يلج الكاتب تلك الدائرة الخطرة من دون استخدام الجمل المهترئة لوكًا، الغارقة بتصفيفات العلاقات العامة الكاذبة.
ناهيك عن اختطاف المكوّن العلوي، فيلقي الضوء على رموزه الحقيقية مثل الشيخ عبد الرحمن الخيّر الزعيم العلوي المعروف، الذي ربما كانت زعامته هي السبب الحقيقي وراء اعتقال واختفاء قريبه المناضل عبد العزيز ضمن مسلسل إخفاء بدائل حكم آل الأسد.
نحن في مواجهة مغامرة كبرى، لا يتوانى بطلها عن "التنقير" خلف أكبر وأقدس المسلمات، متخطيا التابهوات التي صنعها الخطاب الفقير إلى الحجج، فها هو يواصل النقر خلف صورة إبن تيمية برغم استهجانه انخراط أدونيس، ككاتب يساري في الكتابة عن محمد بن عبد الوهاب، ومع ذلك، هو يقدم إبن تيمية بوصفه محدثا لنقلة تقدمية مغايرة لتوظيفات الوهابية والسلفية عموما، أو الأطراف النظيرة لها من اليسارية الممالئة للأنظمة راعية التوهيمات والتمويهات الداجلة الكبرى.
وعلى ذكر أدونيس، لا بد من التوقف عند بدايته التي وثقتها الرواية، المتعلقة بمشهد من طفولته، وهو يطالب رئيس البلدية بالحصول على فرصة لالقاء قصيدة بين يدي الرئيس شكري القوتلي يمدحه بها، وكيف أن الرئيس منح ذلك الفتى البدوي فرصة الالتحاق بمدرسة خاصة في المدينة، فهناك من يتهم أدونيس أنه ما زال يمارس السلوك ذاته، ليس طمعا بالانتقال إلى المدينة والمدنية، بل الانتقال إلى العالمية.
ولتجنب الغرق في عوالم قاع المدينة، بتأثير تتابع الصور المطحونة بين مسنناتها الجبارة، يأخذنا الكاتب إلى عوالم أخرى مختلفة، تنبض بالحياة، ومبشرة بزمان جديد، فمن الثائر عبد القادر الجزائري المنفي في دمشق إلى صورة الخال، المثقف صبحي الحديدي، المغترب قسرا، إلى مظفر النواب المستفيء بافياء الشام هاربا بقصيدته من أنظمة الاستبداد، إلى علي سفر الصديق، القادمة عائلته من الأطراف مُقطِّعة السبل على أبواب دمشق فتستوطن السلمية على سبيل الناي بالنفس عن "مفرمة" المدينة، ولا يتوقف شريط الصور المنحازة إلى المستقبل من دون أن يمر على ذكر الرسام المبدع يوسف عبدلكي وعائلته أيضا.
بهذه الأسماء يُبقي ابراهيم الجبين النافذة مشرعة أو مواربة على أمل يتعلق بحتمية القادم الأجمل، فيقدم الكاتب هذه الصور الايجابية كلها من دون شرح أو تفسير أو إسهاب، متعمدا ختم سردياته بصورة أطفال درعا الذين دفعتهم براءتهم، أو ربما تفاؤلهم الثوري الزائد، للتوقيع بأسمائهم المفتوحة تحت ما خطّوه من شعارات شكلّت، أو كانت بحكم، الشرارة للثورة السورية في عام 2011.
عين الشرق رواية تحتاج لأكثر من القراءة .. إنها رواية جديرة بالتأمل.


