اتصل بنا
 

قراءة في رواية (أفاعي النار) للكاتب جلال برجس

نيسان ـ بكر السواعدة ـ نشر في 2016-11-27 الساعة 19:24

x
نيسان ـ

لم أكد أنتهي من قراءة العبارة الأخيرة في الرواية حتّى وقعت فريسة لتلك القشعريرة التي تصيب منتشيًا بما حمل من دهشة الصدمة؛ فتلك الرواية التي حملتني على أثيرها يومين كاملين كابدتُ فيهما عناء الفضول لأختلس النظر إلى الصفحة الأخيرة طارت بي نحو آفاق لم أعهد مثلها من قبل في قراءاتي الكثيرة، وقد كنت كلما طويت صفحة واستعددت لاستقبال صفحة أخرى أنمّي في داخلي وبشكل تلقائي ذلك السؤال الذي لازمني:
ما السرّ الذي وصل بتلك الرواية إلى الفوز بمثل تلك الجائزة الرفيعة؟ (جائزة كتارا للرواية العربيّة)

ومع كلّ تنامٍ لذلك السؤال كانت بؤرته تضيق، ليتّسع باب الدهشة الذي دخلت من خلاله إلى عوالم سحريّة لم أعهدها من قبل.
لن أتحدّث هنا بصفتي ناقدًا؛ فأنا لست كذلك، ولن أكون متذوّقًا حياديًّا؛ فأنا لست كذلك أيضًا ، بل أنا هنا كاتب أرهقته هذه الرواية بما تضمّنته من معالم إبداعية تجعل كلّ من يقرؤها أسير الدهشة والمتعة.

ولأكون منصفًا بعيدًا عن الذاتيّة قريبًا من الموضوعيّة ما أمكن فإنّني سأتلمّس بعض جوانب الدهشة في هذه الرواية من حيث الأسلوب، واللغة:
أمّا الأسلوب فإنّ قارئ هذه الرواية يجد نفسه أمام لوحة متكاملة الأبعاد؛ فتعدّد الرواة في الرواية ينبئ عن كاتب عبقريّ استطاع أن يُشتّت القارئ، لكنّه مع ذلك تمكّن بخبرته أن يجمع شتاتها بخيط معنويّ رفيع، وهو هنا بارع في تقمّص شخصياته والتعبير عن خلجاتها وأدقّ تفاصيلها وكأنّه يسكنها، وما دمنا في باب الحديث عن الشخصيّات فقد وجدت أنّ الرواية لم تقتصر على شخصيّة رئيسة واحدة، بل هي مجموعة شخصيّات تتكامل كلّ منها مع الأخرى لتشكّل حلقة إنسانيّة تتماهى مع الزمان والمكان.

وأمّا الصورة فهي في حقيقتها لوحة تراوحت عليها الحواسّ الخمس جميعها لتحمل القارئ على أن يتمثّل المشاهد ويعيشها؛ فاللون الذي يشكّل بؤرة الصورة يمتزج مع الصوت والحركة ليطلق العنان للذوق والشمّ لأن يتمثّلا جوانب الروعة فيها، وهذه الصور تراوحت بين البساطة والتركيب، فكأنّك أمام رسّام عرف كيف يشكّل لوحة شفيفة مستغلًّا تلك العلاقة بين الظلّ والضوء.

وأمّا اللغة فقد استطاع الكاتب بلغته المتفاوتة بين الرصانة والبساطة إثبات أنّ الإغراق في الرمزيّة ليس القادرَ على خلق نصّ جميل؛ فكاتبنا هنا يميل إلى لغة يمكن أن تندرج ضمن ما يسمّى السهل الممتنع، لكنّها على بساطتِها تمتلك جاذبيّة وسحرًا لا يمكن أن يأتيا إلا من كاتب خبير في الأساليب اللغويّة، وهو في بعض عباراته العامّيّة في حواراته خاصّة يحمل القارئ ليكون جزءًا من هذه الرواية.

ولتكتمل معالم الدهشة جاءت النهاية مخالفة كلّ توقّعات القارئ، وربّما تأتّى ذلك من خلال تعدّد العقد في الرواية؛ فنحن لسنا أمام عقدة واحدة ما إن تصل إلى هرم تأزّمها حتّى تنحدر نحو الحلّ، بل هي مسلسل من الأحداث لكلّ منها عقدة تتطلّب حلًّا تفنّن الكاتب في إجبارنا على البحث عنه.

أمّا الأفكار فنحن أمام منظّر عرف كيف يوصل فكرته دون أن يقحمها علينا، أو يجبرنا على التصديق بها، بل يجعل أحداث الرواية معزّزة لفكرته تاركة المجال أمام القارئ ليمعن النظر فيها ويحمل ما وافقه منها، ثمّ ينطلق متأثّرًا بطريقة الكاتبة المائلة إلى الإقناع عن طريق الحدث.

ذلك هو الإبداع الذي يجبرك على أنْ تسلّم رايتك وتلقي سلاحك طائعًا مبتسمًا.
قال لي وهو يقدّم لي بنسخة من روايته: لستُ نرجسيًّا لكنّي واثق من أنّك ستجد في روايتي ما يشبع نهمك للإبداع. وها أنذا أرفع قبّعتي وأنحني تبجيلًا لقلم هو في حقيقته قلب نابض بكلّ ما هو مختلف، وإخاله سيسبر أغوار المكان منطلقًا إلى حيث لا يحدّه حدّ، وسيطاول عنان الزمان حاملًا مشعل الخلود لاسم صاحبه، وأيّ خلود أبهى من ذلك الذي ينتظر اسمًا كاسمك.
لم يعد قلمي قادرًا على مجاراة تلك الدفقات الشعوريّة الهائلة، لذا فإنّني سألقي سلاحي، وأختم كلامي بالقول:
'لقد أتعبتَ الكُتّاب بعدك يا جلال' .

نيسان ـ بكر السواعدة ـ نشر في 2016-11-27 الساعة 19:24

الكلمات الأكثر بحثاً