في الأردن: التفتيت لضمان هيمنة النظام
لميس أندوني
كاتبة وصحفية
نيسان ـ نشر في 2016-12-02 الساعة 19:48
الثقة الحكومية في الأردن لا تعكس تأييداً شعبياً وتحكم السيطرة وتضييق المساحة على التحرك المعارض، والسياسات الأساسية هي التبعية والإمعان فيها، والغياب عن الشفافية والمكاشفة يدفع المواطن الأردني إلى انتظار المعلومات من الإعلام الأميركي والإسرائيلي.
الثقة المريحة التي حصلت عليها الحكومة الأردنية في مجلس النواب الأسبوع الماضي، لا تعكس تأييداً شعبياً لا على السياسات الخارجية ولا الداخلية، وهي حقيقة لا يمكن أن تكون غائبة عن القصر الملكي الذي تعَوَّد على إهمال الرأي العام مراهناً على رضا واشنطن وهيمنة الأجهزة الأمنية. فالمسألة لا تتعلق ببناء إجماع شعبي بقدر ما تتعلق بإحكام السيطرة وتضييق المساحة على التحرك المعارض أو حتى على الصوت المخالف، بأساليب في معظمها «ناعمة» المظهر وغير مباشرة، لكن في مجموعها ليست أكثر من قفاز مخملي يُخفي يداً حديدية تهوي بقسوة إن كَبُرَ التحدي.
عنوان السياسات الأساسي هو التبعية والإمعان في التبعية؛ فالسياسات الاقتصادية لا تخرج عن شروط صندوق النقد الدولي المعروفة، في ظل غياب برنامج وطني للتنمية أو لوقف هدر مالي هائل هدفه توسيع قاعدة المتنفذين، وفي ظل عدم وجود سياسة خارجية واضحة، علماً أن الوجود العسكري والاستخباري الأميركي أصبح أقرب إلى تحويل البلاد قاعدة أميركية.
كشفُ الصحف الأميركية أن ثلاثة مدربين قتلوا جراء تبادل لإطلاق النار قرب قاعدة عسكرية أردنية، دلّ على تكتم الأردن على طبيعة الوجود العسكري الأميركي، وإن كانت قيادة الجيش اكتسبت احتراماً لبيانها الأول الذي أعلنت فيه أن حارس القاعدة العسكرية الأردنية قام بواجبه بإطلاق النار على مركبة الأميركيين بعد رفضها التوقّف، قبل أن يُسدَل الستار على الرواية تحت ضغوط أميركية.
غياب الشفافية والمكاشفة يدفع المواطن الأردني إلى انتظار المعلومات من الإعلامَين الأميركي والإسرائيلي، فيما يستمر الرضوخ الرسمي لمطالب أميركية، حيث ارتضى الأردن توقيع اتفاقية تلزم شركة الكهرباء بشراء غاز «إسرائيلي» (هو فعلياً غاز فلسطيني مسروق) لمدة خمسة عشر عاماً، من دون مراعاة للبعد غير الأخلاقي للصفقة ولخطرها الاستراتيجي على سيادة الأردن وأمنه الاقتصادي. فبرغم أن الحكومة حصلت على ثقة 84 نائباً من أصل 125، إلا أن رفض الاتفاقية كان لافتاً في معظم خطابات النواب. إذ اعتبرها كثيرون تمويلاً مباشراً للاحتلال الصهيوني ومشاركة في قمع الفلسطينيين وقتلهم. وهو ما يدلّ على نجاح «اللجنة الشعبية لمقاومة التطبيع»، بما في ذلك حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس)، في إيقاظ الحس الرافض لتبعات معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل العام 1994.
المتابع لجلسات مجلس النواب الذي انتُخبَ في أيلول الماضي، يجد أن حجم التظلم واسعٌ حتى بين المغالين في «الموالاة» من الإجراءات الاقتصادية التي أدت إلى تصاعد متسارع في الأسعار وهبوط مقلق في مستوى المعيشة. لكن مشاعر الغُبْن هذه لم تنعكس في نتائج تصويت الثقة. إذ إن الثقافة السياسية المهيمنة تنبع من الخوف ومن سيادة المحسوبية وعقلية العصبية العشائرية والمناطقية، وحلولها مكان ثقافة التمثيل والمساءلة. فالنظام عملَ ولعقود على تقويض نفوذ الأحزاب والمشاركة السياسية، وجاءت التعديلات الدستورية في شهر نيسان الماضي لتقضي على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، مركزة السلطات كافة بيد الملك، وموجّهة رسالة ضمنية الى المواطن بأن لا قرار له ولا تأثير للمشاركة السياسية بأشكالها كافة على قرارت متخذة مُسبقاً، وكأن لا صوت ولا وجود لمواطنٍ أو لمجلسِ نوابٍ أو حتى لحكومة.
في موازاة ذلك، تولّت العقلية العُرفية زرع الخشية من التعبير السياسي، خاصة في الجامعات الأردنية، ما مهّد لعنف جامعي غير مسبوق، إذ إن الأجهزة الأمنية تتعامل مع الاعتصامات الطالبية السلمية اعتراضاً على رفع الرسوم الأكاديمية كخطر أكبر من إدخال السلاح الأبيض والناري إلى داخل الحرم الجامعي، لأن منع التنظيم السياسي يحظى بالأولوية. لذا، فلا عجب أن تفرزَ الانتخابات نواباً، معظمهم غير مسيّس وفاقد القدرة على تقديم طرح سياسي أو اجتماعي، ما عدا قلة قليلة لا تتمثل بتيارات أو ائتلافات، وباستثناء التيار الإسلامي وتيار الدولة المدنية الذي يقوده النقابي البارز خالد رمضان، والذي يتمثل بنائبين هما رمضان وقيس زيادين حفيد القائد الشيوعي يعقوب زيادين. وكلا التيارين رفض إعطاء الثقة لأسباب متقاطعة ومتعارضة وفقاً للقضية المعنية.
لكن تأثير المعارضة داخل البرلمان يعتمد على قدرتها في تشكيل ائتلافات حول المواضيع المشتركة. إذ إن الانقسام الطولي بين تيار علماني وتيار الإسلام السياسي قد يُدخل النواب في معركة تحييد الاهتمام عن القضايا الاجتماعية والسياسية، خاصة أن النظام نجح في ذلك من خلال إدارته لـ«حملة تعديل المناهج» التي بدت وكأنها معركة ضد الدين، والتي وجد فيها الإسلاميون فرصة للتحشيد المقابل، ما خلق ثنائية تمنع تغييراً جذرياً لنظام تعليمي يكبت حرية التفكير النقدي على المستويات كافة.
العائق الثاني بوجه المعارضة هو ظاهرة الانقسام «الإقليمي» بين أردني وأردني من أصل فلسطيني، ما أدّى إلى توجيه جزء كبير من غضب مشروع في دوافعه إلى «الآخر» ووفقاً «للأصل والمنبت»، نتيجة لسياسة تفرقة ممنهجة، بدلاً من التركيز على جذور غياب المساواة الاقتصادية والاجتماعية.
في المحصلة أصبح النظام يدير الدولة كما يشاء من دون مساءلة حول السياسة الخارجية وبالأخص ملفات العلاقة مع الكيان الإسرائيلي وطبيعة الدور الأردني في سوريا والعراق. فجميعها «تُقَدَم» كمسائل لا جدوى من التعارض معها أو حتى النقاش فيها، لأنها من صلاحيات الملك عبدالله دون غيره من «علاة قومٍ» أو بقية «الرعية». فمفهوم المواطنة مرفوض ولا مكان سوى لمكرماتٍ بلا من حقوق. كما أن التعديلات التي جرّدت الحكومة من الولاية العامة تجعل من الجميع أدوات تطيع من دون تفكير. بالتالي، لا يمكن إحداث تغيير أو تأثير من دون تحدي هذه التغييرات التي أفقدت الدستور الأردني فعاليته، كضمانة لسيادة القانون وحماية الدولة، والتي أريد منها ضمان السيطرة الكاملة ومنع بروز معارضة منظمة. لكن هذه الرؤية قصيرة النظر. إذ لا حماية لنظام أو بلاد تبنى على استراتجية تفتيت مجتمعي في سبيل ولاء زائف.
(السفير)
نيسان ـ نشر في 2016-12-02 الساعة 19:48
رأي: لميس أندوني كاتبة وصحفية