اتصل بنا
 

الحوش: أشغال الماء والنار

صحافي وكاتب

نيسان ـ نشر في 2016-12-07 الساعة 21:44

الحوش: هوية نمط الإنتاج الوحيد المتمثل بالزراعة في بلاد الشام، وظائفه عديدة لمكان يعدّ متنفس الدار وأهله، يتجمع فيه النساء لإعداد السميد والبرغل وتجفيف الخضار وغيرها من صناعات غذائية لتجهيز مؤونة الشتاء، ويحيط بهن صغار البيت يمارسون اللعب في ما تبقى من مساحات فارغة في الباحة التي تحوشهم.
نيسان ـ

ساحةٌ سماوية داخلية تطلّ عليها غرف الدار جميعها (كانت تسمّى كل غرفة بيتاً: الديوان (المضافة)، بيت المونة، بيت الوالد، وبيت لكل واحد من أبنائه المتزوجين..)، تكبر وتصغر بحسب المكانة الاجتماعية لصاحبها، لكن أحداً من فلاّحي بلاد الشام، على اختلاف أنماط البناء من ريف إلى آخر، لم يبن بيتاً من غير 'حوش' أو قاع الدار..
شكّل الحوش هوية نمط الإنتاج الوحيد المتمثّل بالزراعة؛ شكلاً ووظيفة، فهو مسوّر باللبْن (الطين) في المناطق السهلية والحجر في الجبلية منها، وهو فارق يؤسس لاختلافات كبرى بين قرويي السهول وقرويي الجبال تبدأ بتباينات في العمارة وطبيعة الطعام والشراب والتكيّف مع الطقس وغيرها، وتنتهي بتباينات في المزاج وسمات الشخصية والسلوك وحتى في تكوّن العقائد وجوهر الإيمان عند كليهما.
وظائف الحوش عديدة لمكان يعدّ متنفس الدار وأهله؛ في أحد أركانه بئر عميقة تُصمّم عرائش البيت وساحات غرفة وسطوحها بشكل مائل ليسيل عليها المطر نحو في البئر التي كانت تعدّ مصدر الماء الوحيدة حتى وقت قريب، وفي ركن آخر يرتكز بيت النار (بمسمياته: طابون، فرن، وقادية...) لإنتاج الخبز كل صباح حيث لم تتوفر وسائل لتخزينه.
'
ينغلق الحوش وينفتح على بوابة كبيرة لها مفتاح واحد لا يديره في قفلها إلاّ الأب
'
ما بين الماء والنار، تدّب الحياة في الحوش طيلة العام حيث تتجمّع النساء لإعداد السميد والبرغل وتجفيف الخضار وغيرها من صناعات غذائية لتجهيز مؤونة الشتاء، من دون أن يغفلن الأعمال المنزلية لساعات طوبلة لا يؤنسهن سوى غناء وثرثرات ونمائم، ويحيط بهن صغار البيت يمارسون اللعب في ما تبقى من مساحات فارغة في الباحة التي تحوشهم.
ينغلق الحوش وينفتح على بوابة كبيرة لها مفتاح واحد لا يديره في قفلها إلاّ الأب أو بأمر منه، يوزّع الأدوار والأشغال والصفات والألقاب على سكّان بيته، حيث لا يعلو صوت على صوته ولا إرادة فوق إرادته.
منذ منتصف القرن العشرين ساد نمط عمارة هجين حين أرسل أبناء الريف في سورية ولبنان والأردن والضفة الغربية أبناءهم إلى الوظيفة المدنية والجيش، استبدلوا فيه حوشهم –بوظائفه وشكله- بصالةٍ مغلقة ومسقوفة تنفتح عليها جميع الغرف وبقية المرافق.
الصالة الجديدة -أو الصالون كما جرى استعارتها من اللغة الإيطالية-، لم تُخصص لوظيفةٍ محددة، فالأبواب الكثيرة المشرعة عليه حالت دون استخدامها غرفة معيشة، لذلك كانت تؤّثّث في الشتاء بعدد من الفرشات (استبدلت بكراسي أو كنب في فترة لاحقة)، ثم تُرفع صيفاً، لتبدو أشبه بموزّع (كوريدور)، وربما نام فيها الأولاد الذكور، أو اتخذه الجد أو الجدة مجلساً دائماً في حال أقاما مع الأسرة.
بعض ربّات البيوت استخدمن الصالة لأعمال الحياكة غالباً على ماكينة الخياطة المعدنية السوداء (ماركة سينجر المعروفة) في ركنٍ منها، أو لاستضافة الولائم في المناسبات الاجتماعية، ولإقامة حفلة وداع بنات العائلة عند تزويجهن في هذه الصالة.
التحوّلات لا تزال مستمرة في الأرياف التي هاجر أغلب أبنائها إلى المدن أو بلدان الاغتراب، وتمّ الاستغناء عن هذه الصالة لتتحوّل بشكل نهائي إلى غرفة معيشة عليها أن تستوعب جملة تناقضات وتغيّرات لحقت بالمسكن وسكّانه، إذ تراجعت سلطة الأب المطلقة من دون أن يأتي ذلك بحوارٍ وتقبل الآراء والشخصيات والأدوار المتعددة ضمن العائلة الواحدة!
بقي المطبخ ومعه الأعمال المنزلية مسؤولية الأم وبناتها، أو جرى استقدام خادمة آسيوية كشفت عيوباً أكبر في ما يخصّ نظرتنا إلى الآخر وتشوّه منظومة العمل بكاملها، ومن جهة أخرى لم تُوجد الخصوصية المفتقدة لكل فرد في الأسرة رغم توفر مساحات إضافية في مساكننا، التي تؤمّن هوامش سرّية واسعة للأبناء فقط، مقابل تكريس الوصاية على العقول بمسميّات متعددة.
غاب الحوش ومعه بنية اجتماعية اقتصادية كاملة، وشُيّد عوضاً عنه غرفة 'ملتبسة' أطلقنا عليها اسم 'صالون' وعشنا ارتباك وظائفه العديدة مدّة طويلة، ثم غادرناه غير أننا لا زلنا إلى اليوم عالقين في ذلك الممر.

نيسان ـ نشر في 2016-12-07 الساعة 21:44


رأي: محمود منير صحافي وكاتب

الكلمات الأكثر بحثاً