اتصل بنا
 

"هايبرثيمسيا" إبراهيم الجبين تروي دمشق كما لم تعرفها يوماً

صحافي

نيسان ـ نشر في 2016-12-14 الساعة 02:38

دمشق عين الشرق: قصة حب وولاء لمدينة تحمل ذكريات وأحلام السوريين
نيسان ـ

أخبرتني جدتي يوماً أن للعين ملائكة تحميها. مرت السنوات وكلي يقين بما قالت جدتي. مؤمن به كصوفي بحالة الوجد. هايبرثيمسيا إبراهيم الجبين طورت فهمي لإيمان جدتي. عين الجبين مدينة استحالت بطلة، امرأة ثرية الروح عامرة القلب. أم لآلاف المهاجرين. ضمتهم بين جنباتها. احتملت عبثهم، حقدهم، تحطيمهم لأثاثها. سترت عيوبهم، حفظت أسرارهم. املت عليهم آدابها وتربيتها. مدّنتهم إن استطاعوا. يحبونها، كعشق الصغار، يعيبون عليها كل ما فيها وقلبهم عامرة بروحها. هي دمشق 'عين الشرق' كما أراد لها الجبين في روايته التي يحتفي بها الإعلام العربي اليوم في ظاهرة فريدة من نوعها، على أقل تقدير في عالم الثقافة العربية.

صائد اليهود
تعانق سوريا الموت. تجري الدماء في شوارعها عابرة الحدود لتحتل العالم. ينتشر السوريون في كل بقعة في الأرض محملين بالذكريات، الروائح، القصاصات، الهمسات، وكل ما يحمل في جيوب القلب. يرسمون وجوه بلداتهم وقراهم ومدنهم على وجه مستضيفيهم. كل وجه يحمل عينان واحدة له والأخرى لدمشق. كل بلدة في سوريا عين شرقية على طريقتها. دير الزور التي يجوب الجبين شوارعها مستحضراً قصص مثقفيها وشبابها المناضل. شعراء يقاومون النظام بشعر النثر بدلا من القصيد المقفاة. يكمل إلى القامشلي ومنها إلى السلمية. كل العيون السورية حاضرة في دمشق. كلهم يأتونها محملين بالأحلام ويخرجون منها محملين بالآمال والآلام. عبروا مدينة ابن تيمية، وابن عربي، وهمسوا بالصلوات في كنيسة حنانيا وباب كيسان. قرأوا الفاتحة على قبر صلاح الدين وابن كثير وخلفاء الأمويين وثلة من صحابة الرسول العربي. عبروا أزقة سكنها حكام العالم يوماً. ليخرجوا منها محملين بالآلام لفراقها تاركين فيها من لا يحبها ولا يؤتمن عليها. تاركينها كرهاً وجبراً.
تاركينها كما تركها يهودها يوماً. كما فر منها إخاد ليعود إليها ويحبس برفقة الراوي وبطلته المرافقة له دوماً. حبسوا تحت أرضها، وفوقها تدك القذائف المدنيين فتحيلهم ذكريات. يبقى البطل باحثا منقبا عن كنزه الذي تركه ولا نعرفه ما هو، لكننا ندرك أنه كنز ثمين بل رفيع القيمة جداً. إخاد مأخوذ برواية البطل وقصصه وحكايتها عن دمشق وأهلها.
تتكاثر التفاصيل وتتوالد بسلاسلة مرنة تأخذك إلى حجارة التكية السلمانية. عابرة أبواب دمشق، هذا باب السلام وذاك باب كوكب المريخ وأخر لتوما، وثالث للشمس، هكذا تتلمس المدينة من أرضها وتحت أرضها وأبوابها وروحها، ورساميها ومتاجرها الصغيرة ونسائها الجميلات، شركسية تتمرد على الكون لتقع فريسة لحب غريب الأطوار كحب بعض المهاجرين لدمشق. ضابط في سلاح الجو، يصلها وضيعاً بلا قيمة، حالما بحكمها. يقع فريسة الخرف، ويروي على لسانه ولسان من عرفه ولن نعرفه، حكايته مع تلك المدينة التي لفظته. تلك المدينة التي لم تعطه من أرضها أمتاراً قليلة لتسكن فيها جثته. قبور دمشق لمن أحبها.
حافظ الأسد، (إله العلويين) كما يسميه الجبين. ينازع الخوف بانتظار الموت، خرفاً. أدونيس ينازع حب دمشق بشتمها، ينكرها. الراحل أديب الشيشكلي الذي أعطى أدونيس فرصة الدراسة. الأمير عبد القادر الجزائري الذي حمى المسيحيين في طوشة عام 1860. عصام العطار حاضراً في دمشق من ألمانيا. إيليا كوهين الذي تتعرف عليه كأنه صديق دراسة. صائد اليهود الألماني الذي أسس ودرب ضباط المخابرات السورية، كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ عالم سحري من الواقع. تعبره بين ماض سحيق وحاضر شديد الفجاجة. ابن تيمة من قلعة دمشق يروي حكايته مع الثورة. إلياهو ساسون اليهودي العربي الذي أسس صحيفة الحياة. أبو القعقاع السوري مؤسس تنظيم الدولة الإسلامية يعود عابراً بين روايتين بين 'يوميات يهودي من دمشق' و'عين الشرق'. مظفر النواب المريض بالقلب والمعافاة بحب دمشق. عشاق وعاشقات. ضباط صغار وكبار. تجار ورسامون. ذلك العجوز المحتفظ بأرشيف الشعبة الثانية 'المخابرات السورية'. تغرق بالتفاصيل والمعطيات وتصدم مع كل سطر. تتأمل التفاصيل والمزيد من التفاصيل، تتشكل اللوحة الكلية العامرة بالحب والخوف والفرح والحزن والدماء.

'حراس الأرض'
تتجول مع البطل في عالم المثقفين المريض. ذاك يضاجع وهم النساء. أخر يضاجع حتى الحيوانات. ليعلن أنه منفتح الذهن عامر الثقافة. مسابح عرات. بارات ونوادي ليلية. هجوم منظم على المجتمع. هروب واضح من قول الحق في وجه السلطان الجائر. تفاصيل البنية الثقافية السورية الحديثة وصراعها واقترابها وبعدها من السلطة. كيف ولدت المستوطنات الجديدة في محيط العاصمة؟ كيف يرى المهاجرون مدينتهم الجديد؟
كل قطعة من الرواية مشهد سينمائي متقن وكامل التفاصيل. تشتم الروائح من الكلمات. تتلمس خشونة الأحجار بالوصف لا أكثر. تتحرك خصلات شعرك مع نسمات حي المهاجرين. تشعور بالجوع أمام بسطات الحلويات وسط المدينة. تخاف وتجزع لحظة مقابلة النازي الألماني الذي عاش ومات في دمشق. لماذا لم تخبرنا القصة كاملة عن هائل اليوسفي؟ لماذا لم تخبرنا قصة كوهين كلها؟ تسأل نفسك وأنت تقرأ دون توقف بحثا عن المزيد. تأخذك التفاصيل وتأخذك.
تغرق أبنة لتنمو أخرى. تتكلم الزنازين كما تتكلم القبور. تروي الحجارة قصة المسيح على جدار الجامع الأموي. بولس الرسول يعبر بين الثنايا هاربها بسلته عبر فتحة باب كيسان. شيخ الإسلام يقف بوجه التتار ثانية. والجزائري يعقد الصلح. كوهين يرفض اتهامه بالخيانة. حكم العدالة الغائبة دوما يصدح قادمة عبر أثير إذاعة دمشق.
رصاصة تقتل أبو القعقاع وتضيع الدماء. يهود دمشق يعودون إليها بكل ما فيهم من شوق. هم المهاجرون وكل من في دمشق مهاجرون. وراقون يفترشون الأرصفة وكتب ممنوعة تحت الشمس. أهلا بك بعاصمة الروح والأسرار. أهلا بك في عين الشرق.
مثقفون علويون يحاولون فرض سيطرتهم على المدينة ثقافياً. ذاك بات كاتب وصحافي معروف بإشكاليته، وأخر بات مقربا من الطبقة المثقفة وبذات الوقت من رجال الأمن. أخر يعلن رفضه للواقع المرير سراً. أما 'سنانهم' فيعد رسم دمشق بالإسمنت معلنا عبودية ملوكها القدماء لصغير جالس في قصر المهاجرين. يعيد بناء المدينة على طريقته كما فعل قبله المعماري الفرنسي الحاقد على الشام وأهلها.

نهايات مفتوحة
ثلاثمائة وستون صفحة عامرة بالحكايات. تبدأ بعلاقة البطل بذاك العجوز الذي خدم في المخابرات السورية. ولا تنتهي في سجن القلعة مع ابن تيمية ولا بهروب الشركسية. ولا تختم بثورة تنتفض لا ردا على ربيع عربي متأخر. ثورة تأتي نتيجة لكل ما سبق.
جدتي كانت تقول: 'من شرب ماء الشام أدمنها'. الجبين شرب ماء الروح من دمشق. عبرناها سويا بعد مظاهرة الأموي الثانية ربيع عام 2011. تحدث يومها الجبين ومن كان معنا من صحفيين، باتوا منتشرين اليوم في بقاع الأرض شرقا وغربا، تحدث عن دمشق معشوقته وحبيبته. أنا بقيت صامتا فالمكان لا يعنيني. التزمت فن الإنصات لأعرف أكثر. بقيت دمشق في قلبي كغيرها من البلاد والمدن. إلى أن قاربتها في يوميات 'يهودي من دمشق' الصادرة عام 2007 للجبين أيضاً، وفي 'عين الشرق' غرقت جسدا وروحا في أسرارها. المدن عالم من الحكايات ومن غير الشام تحمل كل هذه التحف.

نيسان ـ نشر في 2016-12-14 الساعة 02:38


رأي: جابر بكر صحافي

الكلمات الأكثر بحثاً