اتصل بنا
 

غادة السمّان تفرّغ حياتها

نيسان ـ نشر في 2016-12-14

غادة السمان تحتفظ بماضٍ ملفق وتخفي حقيقتها: تحليل لسلوك غادة السمان وامتناعها عن نشر صورها الحديثة، وتفتعلها أحداثًا تعيدها إلى الأضواء، وتباهيها بحب الآخرين لها وحجبها حبها لهم، وتحتفظ برسائلهم دون الكشف عن رسائلها لهم.
نيسان ـ

ثمّة شيءٌ من ذلك الماضي الثمين، تعيده إلينا غادة السمّان اليوم مشوّهاً، مفرّغا من كل معنى. فما الذي يعنيه امتناع امرأةٍ ومنعها نشر أي صورةٍ لها تُظهرها وقد شاخت، كما يشيخ أي إنسان سويّ، سوى الحفاظ إذاً على صورةٍ كانت 'ملفقة' في الأصل؟ وما الذي يعنيه 'تخفي' تلك المرأة واحتجابها، حين نرى إصرارها وسعيها الحثيثين إلى 'تعرية' مشاعر الآخرين فقط، لكونها تتمحور حولها وتشغل هي مركزها.

لا ضرورة لتكرار ما قاله كثيرون، وردّدوه، عن لا أخلاقية استباحتها عوالم الآخرين، فقط لأنهم وقعوا ذات يوم في حب 'الصورة' التي روّجتها عن نفسها، ذلك أن سلوكها، أمس واليوم، لا يشبه تلك الصورة فحسب، بقدر ما يتماهى مع الحقيقة التي تتوارى غادة السمان خلفها. وبمثل صورةٍ لها منشورة منذ زمن في إحدى المجلات، وهي ملتقَطة من بعيد، لا ترينا الكثير منها باستثناء عينيها، وجزءٍ من وجهها الذي تخفيه وراء كتاب، تواظب غادة السمّان المرأة الأنثى على إبعادنا عن غادة السمّان المرأة الكاتبة، وتفتعل أحداثاً تعيدها إلى الأضواء، حيث لا يوجد سوى وهم وخواء.
كان لا بأس أبداً في أن تبوح غادة السمّان بتفاصيل علاقة حبٍّ حقيقية عاشتها مع هذا الكاتب أو ذاك، أن تكشفها لتعلّقها بها، حباً بالعلاقة وبالطرف الآخر، أو لأنها أثّرت في حياتها الشخصية، كما في مسارها الأدبي. أو أن تكتب مذكّراتها، فتؤرخ لفترة ذهبية نتمنى جميعا أن نعرف عنها المزيد، فتوجد هي في نصّها هذا، كما تفعل حين ترغم من أحبّوها على البوح في غيابهم، ومن دون درايتهم؟ فما معنى أن نقرأ رسائل غسان كنفاني إليها من دون أن نقرأ رسائلها هي إليه، وما معنى أن تنشر رسائل أنسي الحاج الذي أحبّها في عشرينياته، وتوقف سريعا عن هذا الحب، حين لم يلق منها أي استجابة؟ لماذا هذا التباهي بحبّ الآخرين لها وحجبها حبّها لهم؟ ألأنها في الأصل لم تحببهم بقدر ما أحبّت صورتها في أعينهم، تلك الصورة التي صنعتها بتؤدةٍ لكي يحبّوها؟
وكان لا بأس أيضاً في أن تحتفظ غادة السمّان برسائل من عشقوها، وأن يأتي يومٌ تُكشف فيه هذه الرسائل من ضمن ترْكتها، هي العارفة والواثقة أنها ستُنشر حتماً من بعد موتها. لكن، لا. فصاحبة الصورة تريد إحكام السيطرة على 'صورتها' من خلال 'فلترة' ما تراه مناسباً وغير مناسب للنشر، فلا تترك بذلك مكاناً لبغتةٍ، أو لعنصر مفاجأة. إنها كمن ينظّم أمور حياته وأشياءها قبل موته، فيحرق ما يخجل منه، وما يسيء إلى صورته في نظر الآخرين، مُبقياً على ما يغذّيها ويعزّزها في ذاكرتهم. غادة السمّان تفضّل 'إنهاء' حياتها، بأسلوبها هي، أو بالأحرى 'إخراجها' بما تراه لائقا بها، فإذا بها تعيد تأليف حياتها، محرقةً نفسها وملغية وجودها، لتخلف لنا شيئاً هو أشبه بميلودراما فارغة، فاشلة، تتسلى بها وسائل الإعلام برهة، قبل أن تتلهّى باعتراف آخر، أو بفضيحةٍ أخرى.
ما الذي لا تحبه غادة السمّان في نفسها لتغيّبه تماماً وتخفيه عنّا؟ ولم هذا الإصرار على تذكيرنا بها امرأةً أسطورةً، وقع كبار الأدباء في غرامها، لأنهم لم يتمكّنوا من مقاومة سحرها، أكثر من سعيها إلى إحياء ذاتها كاتبةً. ألأنها تظن أنها انتهت كاتبةً، وقد تمّ تجاوزها، وتجاوز ما كتبته يوم كانت الساحة الأدبية والثقافية شبه خاليةٍ من النساء، وحيث مثلت هي نموذج المرأة الحرّة والأديبة التي تخرق قوانين المنع والكبت في مجتمعها، وإلا فما الذي يستدعي تفريغ حياتها من كل معنى، ظنّاً منها بأنها إنما تضيف إلى صورتها كأسطورة؟
ثمّة في سلوك غادة السمّان هذا ملمحٌ من ملامح شخصيةٍ روائيةٍ مهووسةٍ بالصورة التي دأبت على تشكيلها عن ذاتها. وها هي اليوم، بعد تماهيها التام معها، تعيش كابوس ابتلاع صورتها لها.

نيسان ـ نشر في 2016-12-14


رأي: نجوى بركات

الكلمات الأكثر بحثاً