اتصل بنا
 

ذاكرة المحو

نيسان ـ نشر في 2016-12-14 الساعة 05:51

الرائد عن الحركة الجماعية، وتتحول إلى روايات شخصية تتصل بالفرد وتفقد الحركة الجماعية معناها وأهميتها.
نيسان ـ

منطق التذكر ذاتٌّي ومُصادر في ممارساته، لهذا فالتأريخ في العمق تجسيد لهفوات الذاكرة ونزوعها إلى تبجيل الذات، فلا تسلم أي كتابة عن الذاكرة من تصرف وزيغ بالحقائق، تتجلى بوصفها جزءا أصيلا من طبيعة السرد في التمركز على الفعل الشخصي، ونسيان المحيط. وإذا كانت سير الأدباء والفنانين والسياسيين التي كتبت باعتبارها تاريخا خاصا، تستثير سجالات عدة بصدد صدقها وموضوعيتها ونزاهتها، حين تتعرض لوقائع اجتماعية مشتركة ساهموا في صناعتها، فإن حكاية مسارات تتصل بالجماعات العقائدية والفكرية والجمالية التي تدخل الذاكرة الجماعية كتراث عام، تكاد تستعصي على التاريخ، فتجابه كل نوايا الكتابة عنها، بالاعتراض والاتهام المسبق، لما يكتنفها من مصادرات ومزاعم ومحاذير تجعل كل شهادة متورطة في الراهن ومحركة لمساراته.

في هذا السياق تحديدا تلتبس ذاكرة الحركات الأدبية والفنية والفكرية وما يتفرع عنها من أدبيات ومنشورات، في السياق العربي المعاصر، بالسير الذاتية للشعراء والروائيين والنقاد والتشكيليين والمناضلين العقائديين والسياسيين، فتتحول مسارات تلك الحركات الجماعية إلى روايات شخصية، تتصل بالرائد أو المؤسس أو صاحب الفكرة والمشروع،… وحين تكتب سير نقيضة فلتطعن في تلك الروايات الفردية. أستحضر هنا مقتطفا من حديث جبرا إبراهيم جبرا في سيرته “شارع الأميرات” عن “جماعة بغداد للفن الحديث”، حيث يتحدث عن لحظة التأسيس في اقترانها بالمعرض الأول للجماعة سنة 1951، ليسترسل في تعداد من ساهم في المعرض من فنانين قبل أن يختم كلامه بعبارة بالغة الدلالة عن خطاب التشكيلي العراقي، جواد سليم، في المعرض الذي كان بمثابة البيان التأسيسي، قائلا ” كان بعضه كلاما كتبته أنا خصيصا له” (ص 130)؛ وقد أحالتني هذه الجملة على المئات من المرويات التي تتردد بصدد مزاعم الريادة في الثقافة العربية منذ منتصف القرن الماضي، بدءا بحركات الحداثة الشعرية والتشكيلية وانتهاء بتيارات النقد والفلسفة المعاصرة، تقال بنزوع طاغ إلى المصادرة، وتحول تاريخ الإنجاز الجماعي إلى لحظة فرز للتركات.

استعدت هذه الوقائع للتدليل على زيف العمل الجماعي في السياق الثقافي العربي، الذي يبقى مرتهنا لذهنية الذخيرة الشخصية والمجد الفردي، لهذا سرعان ما تنهار التجارب بانفصال عضو مؤسس أو موته، وسرعان ما يتحول النقاش حول عمق الفكرة وجدواها إلى من “يملك تراثها”، لا أنسى هنا ذلك النقاش العبثي الذي عصف بعدد كبير من الأكاديميين العرب، حول ملكية السؤال، والمنهج، والمصطلح، والترجمة من الأصول الغربية، لأدبيات الماركسية والبنيوية والسرديات والسيميائيات والبلاغة وسوسيولوجيا الأدب والنقد الثقافي… وكأن من أسهم بأصالة وعمق في تطوير الوعي بتلك الحقول وأضاف إلى جهود الرواد فيها مجرد تابع (أو سارق) لا شأن له.

نيسان ـ نشر في 2016-12-14 الساعة 05:51


رأي: شرف الدين ماجدولين

الكلمات الأكثر بحثاً