اتصل بنا
 

عن مغتربين في رأس السنة

نيسان ـ نشر في 2016-12-29 الساعة 01:53

نيسان ـ

يُصنّف العراقي، أيام زمان، على أنه من بين أكثر أبناء الأرض تمسّكاً بأرضه، وقد ساعدت هذه الخصلة على نمو حضارات العالم القديم على يديه، لكنه اليوم لا يجد الفرصة متاحةً أمامه للعيش بكرامة وحرية إلا على أرضٍ غير أرضه، وربما كانت رحلة التيه الأخيرة التي ضمت أكثر من ستة ملايين هي الرحلة الأطول والأقسى والأكثر مرارةً في تاريخ البلاد.
يشعر كل فردٍ من هؤلاء الذين أجبروا على ترك البلاد، وتفرقوا في جهات العالم الأربع، بفداحة غيابهم عنها، وقوة حضورها عندهم، وكانوا قد غادروها مع صرر محشورة وحقائب، حاملين أوهاماً وشكوكاً وأحزاناً وذكرياتٍ مرّة، لا قبل لهم بها، وكثيرون غيرهم ممن بقوا هناك يفكرون في الشروع بممارسة اللعبة نفسها، أو الانتظار الأطول والأكثر تحملاً للشدائد والملمات في بلدٍ، وصفته التواريخ بأنه 'بلد آمن'، وقد افتقد أمنه وسلامته، مذ فقد الرجال القمم الذين كانوا يسوسونه أيام الزمن الجميل.
بين هؤلاء المنفيين شعراء وروائيون وفنانون وعلماء مبدعون. وفي المنافي، يحضر الشعر في أكثر من محفل، لأنه الأكثر قدرةً على التعبير بين فنون الإبداع عن مشاعر وعواطف من ألقت بهم الحادثات في أتون اللهفة والحنين إلى المنازل الأولى، والإصرار على بناء وطن، ويتجسد الصراع بين القلب والعقل، القلب يريد العودة، والعقل يجد الخسارات أكبر. يكتب سعدي يوسف 'البلاد التي أوجعتنا طويلاً/ من قال إنا سنتركها/ سوف نأتي إليها لتأتي إلينا'. ويحسّ مظفر النواب طعم المرارة في فمه: 'يا وطني/ كأنك في غربة/ كأنك تبحث في قلبي عن وطن أنت ليأويك/ نحن الاثنان بلا وطنٍ/ يا وطني'. ويراجع فاروق سلوم نفسه: 'تركت البلاد/ وما وجدت غير البلاد/ تركت بيتي/ وما وجدت بيتي/ تركت قلبي/ فضعت بين الدروب والعناوين'. وينكش يحيى السماوي مخزون عمره: 'غربتي لم تبق لي من دفتر الأيام إلا ورقة'. ويتذكر خالد يوسف 'بيارق الآتين' التي وضعها عنواناً لمجموعة أشعاره، وهو في الوطن، ليقول في تغريده له آخر العام: 'البيارق التي تخيلتها ربيعاً أخضر تحولت قطعاً مظلمةً من ليل أسود'.
هؤلاء سحقهم مشهد بلدهم وهو يجثو ويركع، تدوس رقاب أبنائه أقدامُ محتلين غزاة، ويحكمه أفّاقون ولصوص، وهم مثل أهلهم، تراهم حزانى متعبين وساخطين على أمراء الطوائف والأعراق، وسدنة المليشيات السوداء، والنظام الوحشي المتفسّخ، ومافيات الجريمة المنظمة، ومتعاطفين مع خيبة أولئك المخدوعين، الغارقين في الوهم، والذين لم يقدّروا حجم خساراتهم، ولم يدركوا بعد أن مرجعياتهم تأكل العنب الحلو فيما هم يضرسون، وإن كان بعضهم يعرف ما يجري من حوله، لكنه يكتم معاناته، ولا يصرّح بهواجسه سوى لمن هو قادر على فهم مخاوفه وشكوكه.
يقف المنفيون مثل جوارح، وعيونهم على بغداد، وإن نأوا عنها وابتعدوا، هم يعرفون أن ليس فيها مؤسسات دستورية تمتلك شرعية القرار، وليس فيها دستور حقيقي يتم الرجوع إليه، وليس فيها نظام قضائي عادل، يشعر المواطن بحماية حقوقه في الحرية والحياة، ويدركون أن الجميع، مقيمين في الوطن أو نازحين عنه، خسروا صيغة الدولة التي كانت قائمةً في عهد الملوك، وفقدوا مؤسسات الجمهورية التي أرادوها ورشة بناءٍ ونهوض، واكتشفوا زيف الديمقراطية التي وعدهم بها المحتلون، ولم تبارحهم مشاهد الذل والمعاناة التي انزرعت في ذاكرتهم، وما انفكّت تحيط بكل من بقي، وقد قرأوا وسمعوا من حكايات سنة عجفاء أخرى، مرّت على البلاد ما تشيب له الرؤوس: أمٌّ تنوح على ولدها المهاجر، تريده أن يبقى، لكنها تفضل أن تدفنه عند بوابات الهجرة على أن تدفنه في مقبرةٍ عراقيةٍ، تدنّس ترابها أرجل الغزاة، طفل فقد أمه، واقتعد الرصيف يبحث عمن يمنحه نفحة حنان، شيخٌ عجوز يريد رغيف خبز وحبة دواءٍ، فلا يجد من يعينه، وعديد حكايات تراجيدية عن نازحين، ومغيبين، وقتلى، وجوعى، وبؤساء.
وفي رأس السنة الجديدة، لا يملك المنفيون سوى أن يشعلوا الشموع، من أجل بلادٍ تبدو لهم من بعيد أشد سواداً، وأكثر خراباً، لا ومضة في الأفق، ولا ضوء في آخر النفق، ولا نسمة هواء نقية تجيء من هناك.
أما بعد، فبأي حال يجيء العام الجديد، وإلى أي مآل سيأخذ بلادنا معه؟ -

نيسان ـ نشر في 2016-12-29 الساعة 01:53

الكلمات الأكثر بحثاً